كتاب "العلويون" ودائرة الخوف.. الثورة كفرصة ضائعة

2019.05.07 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مازلنا في كتاب "دائرة الخوف.. العلويون السوريون في الحرب والسلم" وهذا المقال هو الثاني الذي يتناول العلويين وتاريخهم، للكاتب النيوزلندي ليون غولدسميث.

العلويون والجيش

عام 1919 أرسلت لجنة كينغ كراين الأميركية لدراسة أحوال سكان الشرق العربي، ومعرفة رغباتهم السياسية بعد انهيار الدولة العثمانية، كانت نتائجها في سوريا ما يلي: أراد المسلمون مساعدة أميركية أو بريطانية لكي يحكم العرب من دمشق، وأيد الدروز انتداباً بريطانياً، في حين أيد الموارنة والمسيحيون فرنسا، وكذلك فعل الإسماعيليون، في حين بدا العلويون منقسمين، حيث لم يكونوا متأكدين أين تقع مصلحتهم في الظروف السياسية الجديدة. حيث قاوم العلويون الفرنسيين في البداية على يد الشيخ صالح العلي، ثم ما لبثوا أن أيدوهم، وتختلف أسباب ثورة صالح العلي ضد الفرنسيين، فبعض المؤرخين قال إن سببها هو تأييد الفرنسيين للمنافس التاريخي للعلويين وهم الإسماعيليون، والبعض الآخر قال إن صالح العلي كان يتلقى الأموال من تركيا كمال أتاتورك كي يقاوم الفرنسيين.

يوضح الكاتب أن الإرث الحقيقي للفرنسيين هو تأكيد الانقسامات في المجتمع السوري، فعندما غادروها عام 1946 لم يحدث أي تقدم في التئام شمل الطوائف والمذاهب المختلفة، ومنذ البدايات سعى الفرنسيون إلى تجنيد العلويين والأقليات الأخرى في قوى الأمن ضد القوميين والوطنيين السوريين، ولكن على العكس من تردد العلويين في الانضمام إلى جيش إبراهيم باشا المصري عام 1830 فقد سارعوا إلى الانضمام إلى قوى الأمن والجيش عند الانتداب الفرنسي وبعده.

في عام 1936 أصدر شيوخ الطائفة العلوية فتوى قالوا بمقتضاها إن العلويين مسلمون "كل علوي هو مسلم، وكل علوي ينفي كونه مسلماً، ولا يقر بأن القرآن هو كتابه المقدس، وأن محمداً رسوله، لا يعتبر علوياً من وجهة نظر الشريعة". بعد هذه الفتوى بشهرين صدرت فتوى عن مفتي القدس محمد أمين الحسيني أيد فيها بقوة أن العلويين مسلمون.

بعد ذلك بدأ العلويون بالنزول من الجبال مع إبقاء خط الرجعة مفتوحاً، وفي تلك الأثناء شجع أكرم الحوراني مؤسس حزب العربي الاشتراكي العلويين على الانخراط في الجيش الوطني، "وأصبح الانضمام للجيش نقطة تركيز في سعي العلويين لتحقيق أهدافهم الاجتماعية والسياسية"؟.

ضعف العصبية لدى السنة

وبعد اقتطاع لواء اسكندرون عن سوريا، هاجر منه بعض القوميين، ومنهم زكي الأرسوزي العلوي، الذي حرص حافظ الأسد على تقديمه كمؤسس لحزب البعث، بعد هروب مؤسسيه الأساسيين وهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من الاعتقال، بكل الأحوال هذا ما ساعد العلويين على الانضمام إلى الأحزاب العلمانية، كحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي، والحزب الشيوعي.

بعد الاستقلال عن فرنسا كانت فترة مضطربة، حيث حاول السنة استعادة دورهم في الجيش، بعد أن ظهر أن الجيش هو السبيل الوحيد للوصل إلى السلطة، " لكن ضعف العصبية لدى العرب السنة قيد حركتهم نحو تشكيل جبهة موحدة. وأدت التسريحات القاتلة المتكررة لكبار ضباط السنة إلى استنزاف وجودهم في الرتب العسكرية العليا، وبدأ أفراد من الأقليات بالدخول إلى الرتب المتوسطة في الجيش. وفي عام 1963 شكل العلويون 65 بالمئة من ضباط الصف ونسبة أكبر من الجنود".

نظرة سلبية تتعمق

يقول الباحث النيوزيلندي إنه بعد 900 عام من هروب آخر علوي إلى الجبال، تمكن علوي من السيطرة على السلطة ليضع العلويين في أهم المناصب العسكرية والأمنية، "كانت فترة حكم حافظ الأسد لا مثيل لها، فقد قفزوا من الجهالة إلى واسطة عقد سوريا والشرق الأوسط".

كانت فترة حكم حافظ الأسد فرصة لتوجيه الهوية السورية نحو الوطنية السورية أو القومية العربية أو نحو إسلام شامل وواسع يضم الجميع، "لكن وضع الطائفة العلوية ازداد ترسخاً في تلك الفترة، ويتضح ذلك من ازدياد خوفهم من الأكثرية السنية وازدياد تمسكهم بالأسد"، حسبما يقول الكاتب.

العلويون الذين تدفقوا بشكل كبير على العاصمة دمشق، استمر استعداؤهم من قبل أغلبية الشعب السوري، فلم يعد ينظر إليهم كزنادقة ومنبوذين، بل أصبح ينظر إليهم كرجال مخابرات مجرمين، أو بيروقراطيين مكروهين وفاسدين في وظائف الحكومة.

الأسد والطائفية

الكاتب أجرى مقابلة مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري، لمعرفة خبايا حافظ الأسد، فخلص

رغم أن أفكاره العلمانية تتناقض مع الطائفية، إلا أنه لم يتمكن من تثبيت سلطته السياسية في خضم اضطراب السياسة السورية إلا بالاعتماد على طائفته

الكاتب إلى أن "الأسد كان مؤمناً بالعلمانية التي حاول أن يطبقها في السياسة السورية من خلال أسلوبه العملي، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أنه دعم طائفته بطريقة لا يمكن وصفها إلا أنها نوع من الطائفية. ورغم أن أفكاره العلمانية تتناقض مع الطائفية، إلا أنه لم يتمكن من تثبيت سلطته السياسية في خضم اضطراب السياسة السورية إلا بالاعتماد على طائفته!، وحسب قول ابن خلدون: اعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره بقومه، فهم عصابته وظهراؤه".

وبعد أحداث حماة وطريقة التعامل الوحشية معها، يقول الكاتب "إن تسلط العلويين في الجيش والمخابرات أثناء عملية القمع ساعد على إذكاء نار التوتر الطائفي، ولم يقتصر ذلك التوتر بين الإسلاميين السنة والعلويين، بل أظهرت وثيقة للحزب الشيوعي السوري انتقادهم للنظام عام 1980: عندما حكم الفرنسيون البلد لم يتمكنوا من تقسيمها كما فعل هذا النظام.. يعتمد النظام على قاعدتين الطائفية والطغيان".

اغتيال كل من يفضح طائفية النظام

طبعاً النظام اغتال كل من كان يتكلم عن هذه المعادلة الطائفية، فمثلاً صلاح الدين البيطار أحد مؤسسي حزب البعث تم اغتياله في باريس لأنه حاول الفصل بين الطائفة العلوية ونظام الأسد، وهو ذات السبب الذي أدى بالنظام لاغتيال كمال جنبلاط، الزعيم الوطني اللبناني قبل البيطار بأسابيع قليلة.

الكاتب الذي وصف الأكثرية بأنها عدوانية! يبرر بطريقة أو بأخرى القمع الوحشي الذي نفذه حافظ الأسد في حماة، ومجزرتها الشهيرة، ويحمل بعض مسؤوليته للإخوان. أحداث حماة أدت إلى فقدان العلويين أي أمل بالاندماج في المجتمع السوري، وأشارت إلى تصاعد محتم للخوف الطائفي كعامل رئيسي في السياسة السورية، "النظام القمعي في سوريا الذي يخترق كل جوانب المجتمع نشأ بشكل أساسي بسبب خوف العلويين من احتمال انتقام الأغلبية السنية لمجزرة حماة. منذ أن سكن الغبار بعد آخر طلقة مدفع على حماة في فبراير 1982 وحتى مارس 2011 كانت سوريا سجناً سياسياً".

فشل دمج العلويين مع السوريين

يفسر الكاتب ودائماً حسب ابن خلدون لجوء النظام للتحالف مع إيران من أعراض ضعف المملكة، ويمكن فهم التحالف المستمر بين دمشق وطهران في سياق العصبية العلوية، وتخفي الهوية الطائفية الخاصة بقاعدة حكمه العلوية، "ومن الممكن أن حافظ الأسد بعد أن شعر بتدهور صحته، وفشله في دمج العلويين في المجتمع السوري من خلال القومية العربية والهوية الإسلامية الموسعة، فقد لجأ إلى تجديد انتماء العلويين إلى الشيعة".

بعد توريث السلطة لبشار يرى الكاتب أن العصبية بمفهومها التقليدي قد ضعفت عند العلويين، إذ إن بشار الذي عاش عمره في الشام وتزوج سنية كان بعيداً عن همومهم، فضلاً عن فقر العلويين المزمن، بينما أثرى النظام ورجاله، وهم حسب خدام 500 أغلبهم من العلويين المقربين من دائرة صنع القرار، إلا أن الخوف والقلق المصيري هو الذي جعل العلويين يلتفون من جديد حول بشار.

اغتيال الحريري وحرب تموز

بشار حرص على تقديم نفسه في بداية حكمه كإصلاحي، إلا أنه سرعان ما عاد سيرة أبيه الأولى إلى القمع، لأن الإصلاح يعني فقدانهم للحكم، وهذا ما طمأن العلويين، حسب الكاتب الذين يخشون من عودة السنيين إلى النشاط السياسي، فضلاً عن أن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها النظام تضر بالدرجة الأولى بالعلويين، الذين يعيش كثير منهم على خط الفقر.

بعد اغتيال الحريري عام 2005، اهتز النظام بقوة وكانت عيون العلويين ترنو إلى غازي كنعان، حيث يتمتع باحترام كبير لدى العلويين، لذلك كان من الممكن أن ينشئ قاعدة زعامة منفصلة في الطائفة العلوية، بالتحالف مع عبد الحليم خدام، إلا أن النظام عاجله بالقتل، ثم روجوا لأخبارٍ عن انتحاره.

على إثر اغتيال الحريري تشكلت لجنة تحقيق دولية، لكن بعد ذلك بشهر استفز حزب الله إسرائيل، وبدأت حرب تموز، وهي التي استغلها النظام

التعايش السني العلوي في لواء إسكندرون يناقض التأكيدات التي يروج لها حكم عائلة الأسد أن الاستبداد الصارم ضروري للمحافظة على الانسجام والتعايش بين الطوائف

لتذكير السوريين بالخطر الخارجي الخلدوني، الذي تمثله إسرائيل، وأثره في حشد التعاطف، وهنا حاول بشار استغلال الفوائد الدعائية لحرب 2006 إلى أقصى درجة عبر إعلان تأييده المطلق للمقاومة الشجاعة، وهذا ما رأى فيه خدام محاولة استخدام حزب الله لإبعاد خطر المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري.

العلويون والتعايش

الكاتب يحاول أن يقارن أحوال العلويين خارج سوريا، فمثلاً فضل العلويون في قرية الغجر بالجولان الجنسية الإسرائيلية، ووضعهم أفضل من نظرائهم العلويين في سوريا، وكذلك هو وضع علويي لواء إسكندرون، حيث يعيش العلويون كأقلية في دولة تعطيهم هامش من الحرية، "هذا التعايش السني العلوي يناقض التأكيدات التي يروج لها حكم عائلة الأسد أن الاستبداد الصارم ضروري للمحافظة على الانسجام والتعايش بين الطوائف"، ويختلف الوضع عند العلويين في شمال لبنان التي يتدخل النظام فيها دائماً لتحقيق مصالحه، وهو السبب الرئيسي لتأجيج القتال السني العلوي في طرابلس.

نهاية الدولة

يقول ابن خلدون إنه في نهاية الدولة تنتشر المجاعات والطاعون.. ويمتنع الناس عن زراعة الأرض بسبب الهجوم على الممتلكات وزيادة الضرائب.. وتحدث الاضطرابات نتيجة ثورة الرعايا والأعداد المتزايدة التي يشجعها على الثورة شيخوخة الدولة وضعفها، وهذا ما حصل في سوريا، بعد خصخصة القطاع الحكومي لصالح حيتان العائلة الحاكمة، فضلاً عن الجفاف الذي ضرب المنطقة الشرقية وجعل مئات الآلاف ينزحون إلى أطراف العاصمة دمشق، وكانت كل هذه الظروف مواتية لاندلاع الثورة التي رأى فيها الكاتب فرصة جديدة لاندماج العلويين في الكيان السوري، وفي سنوات الثورة الأولى كان التخلي عن الأسد سياسة واقعية ممكنة لدى بعض العلويين، إلا أن كثيراً منهم بقي مؤيداً للأسد بسبب الخوف التاريخي، وبسبب خشيتهم من فقدان وظائفهم، وبالتالي فقدان مصدر عيشهم، فكل العلويين تقريباً موظفون في قطاعات الدولة، وعمل النظام على حشد العلويين خلفه عبر ضمهم لمجموعات الشبيحة التي كانت تعمل على قمع المظاهرات، وهم من ارتكبوا مجازر بشعة في الحولة وبانياس.

كبر الخرق على الراقع

 بكل الأحوال كانت الثورة فرصة لكي يخرج العلويون من تقوقعهم إلى الفضاء السوري العام، ولكن الدعم الإيراني للنظام وحضه على الصمود إضافة إلى تدخل حزب الله وميليشيات عراقية طائفية، وإعلان تنظيم داعش الخلافة، وقيام إمارة لجبهة النصرة فضلاً عن الخطاب الطائفي الذي انتهجه العرعور، أدى إلى تمسك العلويين بالنظام، وأن يكونوا أداته الباطشة، ربما كان الكلام عن انشقاق العلويين ممكناً حتى عام 2014، حينما انتهى الباحث من تأليف كتابه، ولكن الآن بعد فشل الإيرانيين وميليشياتهم الطائفية، وتقدم المعارضة خصوصاً آخر عام 2014، إلا أن التدخل الروسي قد قلب الموازين لصالح النظام، وأطال من عمره نظرياً، ولكن النظام ومعه طائفته أصبحوا لعبة بيد الروس، ولا نعرف عن ماذا يتمخض هذا الوضع، ولكن الأكيد أن الخرق الطائفي قد كبر على الراقع.