كانوا في مزاج مرح

2018.10.28 | 23:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"كانوا في مزاج مرح للغاية، يدخنون في السيارة ويشربون الكحول. سألوني عن مطعم يتناولون فيه الطعام، فأخذتهم إلى مطعم دونر"

هذا مما رواه سائق تاكسي أقل الجناة من وإلى مطار أتاتورك، قبل الجريمة بيوم، وبعدها بساعتين. كما أقلهم في الثامنة صباحاً من الفندق الذي نزلوا فيه إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول.

هذا "المزاج المرح" يحتاج إلى شيء من التأمل لدى قتلة محترفين يشكل قتل البشر "مهنة" بالنسبة لهم، مثلها مثل أي مهنة أخرى. فالخباز يصنع الخبز، والمهندس يخطط لبناء، والبائع يبيع السلع، والقاتل يقتل البشر. الأمر بهذه البساطة. هذه ليست "تفاهة الشر" الشهيرة حيث القتل مجرد تنفيذ للأوامر، بل لدينا، إضافة إلى ذلك، مزاج مرح قد نصادفه لدى مستمتع بصحبة أصدقاء أو محقق إنجاز شخصي أو غيرها مما يمنح المرء شعوراً طيباً. 

صحيح أن أعضاء فريق الإعدام السعودي نفذوا أوامر صدرت إليهم، وفقاً للتراتبية الوظيفية التي يخضعون لها، ولكن ليس بلامبالاة الضابط النازي أدولف آيخمان وبرودة مشاعره، إزاء ما ارتكبت يداه من جرائم، بل بحماسة وبهجة، كما يمكن أن نفهم من شهادة سائق التاكسي التركي. مع أن أحداً منهم لا تربطه بالضحية علاقة عداء شخصي من شأنه ربما تفسير المرح الذي بدا عليهم بعد ارتكاب الجريمة الفظيعة بساعتين. بالمثل كانت "روح النكتة" حاضرة لدى القنصل السعودي وهو يفتح أبواب خزانات داخل مبنى القنصلية قائلاً لمصور التلفزيون: انظروا من تبحثون عنه ليس هنا أيضاً!

لماذا ينفذ العنصر المكلف "واجبه" بكل تلك الحماسة، ويضفي عليه شيئاً من "الإبداع الشخصي"

خبرتُ شخصياً، كغيري من السوريين، حماسة عناصر وضباط مخابرات في التنكيل بمن يقع بين أيديهم. بدا لي الأمر غريباً غير مفهوم. لماذا ينفذ العنصر المكلف "واجبه" بكل تلك الحماسة، ويضفي عليه شيئاً من "الإبداع الشخصي" ما دام الأمر مجرد تنفيذ أوامر لا يستطيع رفضها؟ وفي ذلك كانت تظهر تباينات جدية بينهم. فمنهم من كان، فعلاً، يتصرف كمنفذ أوامر وحسب، بل هناك من كانوا يفعلون ذلك على شيء من المضض، وإن كان هؤلاء أقلية صغيرة بين زملائهم. في حين أن أكثرية من يعملون في تلك الأجهزة هم أقرب ما يكونون إلى مجرمين ساديين يستمتعون بتعذيب وإذلال أشخاص لا يعرفونهم. لذلك كان السؤال الوجيه هو ما الذي يفعله بعض الأوادم القليلين في جهاز صمم أصلاً من أجل جلادين ساديين، وليس "ما الذي يفعله جلادون ساديون في جهاز من أجهزة الدولة التي من المفترض أنها تعمل على تطبيق القانون"؟

أفترض أن فريق الإعدام المؤلف من 15 شخصاً الذي أرسل إلى إسطنبول لتنفيذ مهمة خطف الصحافي جمال خاشقجي، أو قتله مباشرةً في القنصلية، لم يتردد أي من أعضائه، بمن فيهم الخبير في الطب الشرعي، في قبول المهمة، بل ربما رأوا فيها فرصةً ذهبية يثبتون فيها ولاءهم للمرجعية التي كلفتهم بها، وللحصول على مكافأة مجزية، و... ماذا أيضاً؟ لشرب الكحول في إسطنبول! نعم لن نفاجأ إذا حدث ومثل هؤلاء أمام محكمة (وهذا احتمال وارد) وقال أحدهم في إفادته إن ما شجعه على المشاركة في هذه المهمة هو السفر إلى إسطنبول حيث يمكنه شرب الكحول. فهذا المجرم الذي يقوم "بواجبه" ببهجة ومرح، قد لا يحتاج إلى حوافز للقتل، وقد يكفيه منها الحافز الافتراضي المذكور. 

هذه الحالة تعطينا فكرة عن طبيعة الأنظمة البوليسية التي تحكم شعوب هذه المنطقة المنكوبة من العالم. تتشكل أجهزتها "الأمنية" من مجرمين يمتهنون القتل، ويتمتعون بالحماية من أي محاسبة، ويعاملون السكان معاملة جيش احتلال لبلد عدو. وإضافة إلى الامتيازات المادية التي تغدقها عليهم طبقة الحكام، تفتح أمامهم أبواب الفساد والسرقة على اتساعها، مع خضوع هذين الامتيازين والفساد لتراتبية دقيقة، وصولاً إلى "الطبقة الدنيا" من عناصر الأجهزة التي لا تتمتع بأي امتيازات، لكنها تضرب بسيف الجهاز الذي تنتمي إليه فتتكسب بقدر اجتهادها الشخصي، معتمدة على الرعب الذي يبثه الجهاز في قلوب الناس.

يتذمر كثير من السوريين من المفارقة الظاهرة في تحول مقتل الخاشقجي إلى قضية رأي عام عالمي

ينطبق التوصيف السابق على حالة "الحياة الطبيعية" في بلداننا. أما إذا أردنا الانتقال إلى حالة استثنائية كالثورة السورية مثلاً، فسوف نرى أن ما كان محدوداً بأجهزة القمع قد فاض عنها واتسع ليشمل ميليشيات غير نظامية، وقطاعات اجتماعية موصوفة بالموالاة، وظهرت نزعات إجرامية خارج أجهزة القتل الاحترافية، تستمتع بالفتك بمن تعتبرهم خصومها بل تطالب بالمزيد، كحالات التعبير عن الابتهاج بقصف النظام للغوطة الشرقية بالسلاح الكيماوي، سواء بين مدنيين عاديين موالين للنظام، أو مثقفين عبروا عن ذلك كتابةً أو على شاشات التلفزيون أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

يتذمر كثير من السوريين من المفارقة الظاهرة في تحول مقتل الخاشقجي إلى قضية رأي عام عالمي، مقابل صمم العالم أمام الأهوال التي يتعرض لها السوريون منذ أكثر من سبع سنوات. إذا استثنينا من يركزون على هذه المفارقة لتبرئة قتلة جمال خاشقجي ومصدري الأوامر لهم، فالشكوى السورية مفهومة. ومع ذلك فإن تحول جريمة قتل خاشقجي إلى قضية رأي عام عالمي، هو فرصة حتى للسوريين إذا شكلت نقطة تحول في تعامل العالم مع هذه الأنظمة المجرمة. ما يخشى منه هو العكس تماماً، أي انتهاء قضية الخاشقجي بصفقة سياسية تنقذ المجرم، وتطوي هذه الصفحة، كما حدث في قضية اغتيال رفيق الحريري (إلى الآن). لا أريد مجرد تخيل أن يتشجع نظام بشار، والأنظمة الشبيهة به، من الإفلات المحتمل لقتلة جمال خاشقجي من العقاب، فتتحول سفاراته وقنصلياته إلى مراكز إعدام للمعارضين السوريين المشتتين في بلدان العالم. 

هذا الاحتمال وحده كافٍ لتكون قضية خاشقجي قضيتنا أيضاً.