كأنها انتخابات ما قبل الحرب

2018.05.06 | 00:27 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الانتخابات المهمة في العراق بعد أسبوع، لكن الضجيج الإعلامي من نصيب الانتخابات اللبنانية التي تجري اليوم. ربما غرابة الحياة السياسية في لبنان وظواهرها المحيّرة تجعلها مادة جذابة للصحافة، التي تبحث عن الإثارة والتشويق. بأي حال، ثمة الكثير من العوامل المشتركة بين الحدثين. في هذين البلدين انتخابات حقيقية، تبقى رغم كل نواقصها تتسم بالديموقراطية، أي بحرية الإرادة وحرية الاختيار، لتشكيل برلمان غير صوري، يضطلع بأدوار تشريعية، كما في صوغ السياسة العامة وفي إنتاج السلطة.

في هذين البلدين أيضاً، البند السياسي الأول فيهما ظاهرة الفساد. فساد السياسيين إلى حد لا يُطاق. الحملات الانتخابية والمنافسة بين المرشحين، هي مناسبة لمعاينة هذا الفساد، حيث يتم إنفاق مئات الملايين من الدولارات بلا أي ضوابط، من أجل كسب المعركة وشراء الأصوات. من لديه القدرة على صرف هكذا مبالغ يحوز على مقعد نيابي. بمعنى آخر، "ممثلو الشعب" سيكونون هم الطغمة المالية الفاسدة عينها، المناط بها مهمة "محاربة الفساد"؟!.

لأنه ما من عاقل ينفق المال بلا حساب من دون مردود، فالأرجح هو أن المقعد النيابي في الحالتين العراقية واللبنانية مصدر أرباح هائلة.

ولأنه ما من عاقل ينفق المال بلا حساب من دون مردود، فالأرجح هو أن المقعد النيابي في الحالتين العراقية واللبنانية مصدر أرباح هائلة. وإذا كان التقليد اللبناني القديم يرتكز على تحالف مصلحة بين رجل السياسة المرشح والممولين من رجال الأعمال والمصارف والصناعيين وكبار التجار، فاليوم بات السياسي نفسه مصرفياً وسمساراً وتاجراً ومقاولاً ومالك العقارات والشركات ومبرم الصفقات الكبيرة. البرلمان اللبناني عبارة عن نادٍ يضم أكبر تجمع لأصحاب المليارات (أو مئات الملايين). الأمر ذاته في العراق، حيث "النخبة" الجديدة، المتكونة بعد العام 2003، راكمت بسرعة قياسية ثروات ضخمة بعد وصولها إلى السلطة.

الظاهرة المشتركة الأخرى، هي الإمعان في تكريس الانتماء الطائفي كهوية جوهرية للمواطنين. بل هي الهوية الوحيدة المتاحة لهم. تلقائياً، تتحول السياسة هنا إلى صراع هويات. وللحفاظ على السلم الأهلي يتجذر مبدأ المحاصصة بين الطوائف. ووفق هذا المبدأ (المحاصصة) يتداخل البيزنس الفاسد بالسياسة تداخلاً حميماً. فالزعيم الذي يمثل الطائفة ويختزلها بشخصه، يعمل على الدوام من أجل "حصة الطائفة" من الريوع والمداخيل والأموال العامة والوظائف والإدارات. النهب والتناتش والاستحواذ على مصادر الثروة باسم الطائفة والجماعة، يمنح الحصانة للزعيم السياسي، الذي بدوره يُنشئ شبكة علاقات مع جماعته قوامها الزبائنية والتبعية وإدارة توزيع الغنائم والرشوة والانتفاع غير المشروع. هكذا تكتمل حلقة الفساد أفقياً وعمودياً. الدولة والمجتمع معاً في دوامة منظومة الفساد إلى أجل غير مسمى.

وإذا كان النموذج اللبناني والعراقي أرقى قليلاً من نماذج الاستبداد العربي، حيث هناك جماعة واحدة (طائفة أو حتى عائلة أو مجرد زمرة) وزعيم أوحد يتوليان النهب والإفساد من دون محاصصة طائفية، فهذه هي ربما الفضيلة الوحيدة للديموقراطية في ترجمتها الشرق أوسطية. 

مقابل هذا الانحطاط في الحياة السياسية اللبنانية والعراقية، يأتي العامل المشترك الأهم في الحدث الانتخابي بالبلدين، العامل الذي يجعل تلك الانتخابات ذات تأثير إقليمي ودولي شديد الخطورة. إنه الدور الإيراني هنا وهناك.

قيادة "حزب الله" طلبت من إيران تأجيل ردها العسكري المحتمل على الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى "الحرس الثوري" الإيراني في سوريا، إلى ما بعد الانتخابات اللبنانية. 

يقال أن قيادة "حزب الله" طلبت من إيران تأجيل ردها العسكري المحتمل على الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى "الحرس الثوري" الإيراني في سوريا، إلى ما بعد الانتخابات اللبنانية. "حزب الله" شديد الحرص أن تجري هذه الانتخابات بهدوء، كونها الفرصة الذهبية لتشكيل مجلس نواب يهيمن عليه الحزب وحلفاؤه، لأول مرة منذ انتهاء عهد "الوصاية" السورية. لقد عطّل حزب الله بالقوة نتائج انتخابات 2005 و2009، ثم عطل إجراء الانتخابات في مواعيدها السابقة في السنوات الخمس الماضية.

أثمرت جهود الحزب المذكورة بالتعطيل والترهيب في الوصول إلى تسوية تتضمن قانوناً انتخابياً جديداً، مبدأ "النسبية" فيه، كما إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، يضمن تشرذم ما كان يسمى بقوى 14 آذار، ويؤمن له ولحلفائه هيمنة مريحة على البرلمان الجديد. وقد أعلن نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم بوضوح، أن الهدف الأول للبرلمان الجديد هو "شرعنة سلاح المقاومة"، بمعنى وضع لبنان رسمياً داخل منظومة "الممانعة" التي تقودها إيران. وبنظر "حزب الله"، فتحقيق هذا الهدف هو أهم رد إيراني على إسرائيل أولاً، وعلى الدول العربية التي تقاوم النفوذ الإيراني في المنطقة، بل وعلى السياسات الأميركية التي تلوح بإعادة النظر بالاتفاق النووي.

لا يبتعد العراق عن هذا الجهد الإيراني في استثمار الانتخابات النيابية. "الحشد الشعبي"، المتكوّن أساساً من ميليشيات شيعية يمولها ويسلحها ويقودها "الحرس الثوري" الإيراني بقيادة قاسم سليماني، هو الناخب الأكبر. فمن البديهي أن الذي صنع الانتصار على "داعش" سيطالب بالثمن سياسياً. ومعركة الانتخابات العراقية اليوم هي من أجل حسم موازين القوة داخل الطائفة الشيعية أساساً لصالح التيار الإيراني وضد القوى التي تنزع إلى استقلالية القرار الوطني العراقي. إن تكريس برلمان تهيمن عليه أغلبية شيعية موالية لإيران، وتكريس "الحشد الشعبي" (كما "حزب الله" في لبنان) كقوة مسلحة موازية، تملك القدرة على التلويح بالحرب الأهلية متى شاءت، والقتال خارج الحدود متى أرادت.. كل هذا سيجعل مشروع الممر الأسطوري: من طهران إلى بغداد إلى دمشق وبيروت.. مفتوحاً تماماً، ويجعل من إيران قوة عظمى في الإقليم، ومن دون حتى سلاح نووي.

في المحصلة، نحن أمام مجتمعين غارقين في التشرذم الطائفي والمذهبي، وغارقين أكثر في بئر الفساد، يذهبان إلى انتخابات، لا يمتلك فيها أحد أي مشروع سياسي فعلي سوى الحزب الإيراني. وهو بالتأكيد مشروع الاستعداد للحرب الكبرى التي بدأت إشاراتها تتكاثر.