قُطبا الاستبداد: الدكتاتور-الإله والمثقف الأصفر

2018.09.13 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان للسلطة الدينية الكنسية، في فترة ما من التاريخ، سيطرة كبرى على الملوك والأمراء، فهي التي كانت تتوجهم وتمنحهم البركة، وتعزلهم إن شاءت أو عصوا أوامرها، إلى أن انتفض الملوك والأمراء (السلطة الزمنية) ضد البطاركة (السلطة الكنسية)، وأسسوا لممالك وإمارات مطلقة الحكم، إلا أنهم ظلوا يعدّون أنفسهم ظلَّ الله على الأرض. أما في بلادنا، التي حكمتها سلطات استبدادية من نوع فريد، فكانت "السلطات" الدينية ملحقة بالسلطة الزمنية، وتتلقى الأوامر منها، في صيغة غريبة من التشارك يمكن فيها للدكتاتور أن يتخلص من رجل الدين ساعة يشاء، ويستبدله بآخر أكثر طواعية، في مسعى منه ليكون هو الإله-المعبود.

واجه نظام الأسد والقوى الموالية له ثلاثية الثورة (الله -سورية -حرية)، بثلاثية (الله -سورية -الأسد)، في مقابلة عدائية جوهرية ما بين سورية والأسد، ثم تخلى لاحقاً عن الله، في تحول دراماتيكي ليكتفي بشعاره (سورية – الأسد) الذي عبّر عنه موالوه بصيغتهم الفجة والمبتذلة: "الأسد أو نحرق البلد"، في تعبير عن ملكية سورية المزرعة للعائلة الأسدية التي توزع بدورها الفتات على الموالين، حسب قربهم من النواة الصلبة.

كان التوجه الاستراتيجي للعائلة الأسدية في رفع مصاف رئيسها إلى مرتبة الآلهة والربوبية

لم يكن هذا التحول عفوياً في سورية الأسد، بل كان التوجه الاستراتيجي للعائلة الأسدية في رفع مصاف رئيسها إلى مرتبة الآلهة والربوبية، مسعى لرفعه إلى درجة تمنع التمرد والثورة عليه، بل حتى مجرد انتقاده أو الحلم بتغييره، وذلك من خلال إنشاء شبكة من علاقات الثروة والقوة، تقوم على تبادل المصالح والنفوذ، مقابل الخضوع لسيادته والترويج لعبادته.

تجلى ذلك في رفع زبانيته وجلاديه الشعارات التأليهية في المسيرات لتأييد الدكتاتور، والأكثر بشاعة منه سلوك الجلادين في معسكرات وزنازين الاعتقال التي لا يشابهها أي نظام سابق عبر التاريخ، حيث كان مطلبهم الأول من المعتقلين أن يرددوا -تحت التهديد بالقتل- أن ربّهم هو بشار، وعليهم الصلاة له والتسبيح بحمده، وصولاً إلى حالة من الخضوع الأبدي لسلطة العائلة الأسدية، في مشاهد تعذيب تفوق كثيراً حالة التوحش، والغاية هي قتل روح التمرد لدى الناس.

لا يكتفي الاستبداد بالاعتماد على القوة العارية التي أبرزها، في المعتقلات وأماكن الاحتجاز وفي المشافي وفي قصف البلدات والمدن، بالبراميل والصواريخ بعيدة المدى والأسلحة الغبية لداعميه الروس والإيرانيين، بل يلجأ إلى من يبرر له سلوكه ويجمّل له فظائعه التي لا مثيل لقذارتها، وهو المثقف الأصفر، أياً كان موقعه في جهة اليمين أو اليسار.

فالمثقف الأصفر في روسيا وأوروبا اليميني يهوّل خطر التطرف الإسلامي، ويوهم الناس بأن الإسلاميين سيسيطرون على أوروبا، واليساري يبحث في نظريات المؤامرة والنضال ضد الإمبريالية، كي يبرر الفظائع التي يرتكبها النظام الأسدي وداعموه الروس والإيرانيين، وما محاولاتهم فبركة استخدام السلاح الكيمياوي إلا خير شاهد، ناهيك عن شواهد أخرى من قصف إسرائيل وأميركا لمدن سورية التي دمرتها الطائرات الروسية.

أما المثقف الأصفر في الداخل فمهمته مزدوجة: على عاتقه مهمة المثقف اليميني واليساري، فهو الذي يخوّف أوروبا من خطر التطرف الإسلامي، ويغوص في تحليلات "استراتيجية" عميقة متعددة المنابع والمشارب، ليثبت أن السوريين الذين ثاروا ضد نظام الأسد ليسوا أكثر من أدوات في أيدي إسرائيل والإمبريالية، تسعى لضرب محور المقاومة "العظيم" الذي اتضح بشكل جلي أن كل أسلحته موجهة نحو الداخل، مع الاحتفاظ بكامل الحق بالرد ذات يوم...

والمهمة الأخرى لذلك الأصفر هي تسفيه مطالب الثورة، وتبيان عدم أحقيتها، من خلال التلاعب على الألفاظ والتخندق خلف عبارات غامضة مفتوحة للتأويل، والمقارنة مع تجارب تاريخية مختلفة من حيث الزمان والمكان والأحداث، وتقديم تفسيرات وطروحات لا تمت إلى الواقع بصلة، غايتها تشتيت الناس، لا بل إدانتهم بفعلتهم هذه، بذريعة أن الظروف الموضوعية غير جاهزة، وأن الثورة تفتقر إلى القيادة، وأن هناك قوى أسلمتها بعد عسكرتها، متحسراً على حالة سلمية من التظاهر لم يشارك فيها يوماً، ويجهد لخلق معارك تتعلق بالهوية وبالتخيلات أكثر من الوقائع، ولا يقدم شيئاً سوى عرقلة ورفض ما يفعله الآخرون.

لقد تعرضت الثورة السورية والسوريون لحملة قتل وتهجير وإبادة لم يسبق لها مثيل

حقاً، لقد تعرضت الثورة السورية والسوريون لحملة قتل وتهجير وإبادة لم يسبق لها مثيل، كما أصبحت سورية، نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، ساحة للتصارع على النفوذ والمصالح، من خلال تشكيل التكتلات والجهات التي ارتضت أن تكون لعبة في يد قوى الاستبداد الخارجي والداخلي، في معركة تكاملية ضد طموحات السوريين.

معركة السوريين واضحة، وهي ضد قوى الاستبداد وضد الدكتاتور-الإله، ولن يشتت السوريون قوتهم في معارك جانبية ضد متممات الدكتاتور مهما تنوعت ألوانها، لأنهم يدركون أنها ستزول مع رحيل الدكتاتور.