"قوات سوريا الديمغرافيّة"

2018.06.09 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

درجَ على ألسنة أغلبيةِ الذين خرجوا في الحراك المدني منذ بدايات الثورة السورية 2011 شعار "إسقاط النظام" واستبداله بنظام ديمقراطي تعدّدي، وهذا الشعار كان من مسلّمات الثورة،  أو إن صحّ التعبير، هو مطلب يتضمّن الكثير من المطالب التي كانت أحلاماً يوميّة للشعب السوري، ترافقه مع أنفاسهِ، لشدّةِ ما عاناه  من ذلٍ طيلة أربعين سنة تحت وطأة "نظام مافيوي" سلبَ منه كرامته  ومقدّراته وحريته  في كل جوانب الحياة!؟؛ فبعد أن رجحت كفّة الميزان داخل سورية للسلاح والاقتتال، بسبب ردّة فعل النظام الدمويّة، تمّ إقصاء الحراك المدني بشكل شبه كامل، وجاء بعد ذلك دخول الجماعات المتشدّدة (الإسلامية) ساحة الصراع تحت غطاء "إقليمي" ليعقّد المشهد أكثر، بعد أن أزيحَ "الجيش الحر"،  وتمت تصفية معظم قادته ومطاردتهم واعتقالهم إما على يدِ النظام السوري، أو من خلال الإيرانيين وعملائهم على الأرض الذين استطاعوا اختراق صفوفه، وأسباب جوهرية أيضاً تتعلّق بتلاقي مصالح بعض الجهات  الخارجية مع بعض دول الخليج التي أرادت طمس معالم الحقيقة ؛ وعلى ذلك، فقدَ الشارع السوري الثائر روح المبادرة المدنيّة (المظاهرات السلميّة) وخاصةً الشباب، وانساق البعض إلى السلاح، والبعض تحوّل إلى العمل الإغاثي وغيره .. عدا عن الذين قتلوا أو اعتقلوا، والسواد الأكبر صار مهاجراً قسرياً من بلدٍ إلى بلد بسبب الأخطار التي يواجهها من كافة الجهات على الأرض.

 بعد اغتيال المعارض الكردي البارز "مشعل تمّو " في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2011، تغيّرت خريطة الحراك السلمي الجماهيري في "محافظة الحسكة"   ، وأخذ المشهد الثوري انجرافاً مغايراً عن طبيعته.

فالهمّ الوحيد الذي كان جاثماً على صدور السوريين، والذي يتمثّل بكوابيس تمتد منذ عام 1971 _اغتصاب حافظ الأسد للحكم _ حتى 2011، ازدادَ أضعافاً مضاعفة!  و بعد أن كان السوريون يأملون بإزاحة هذا النظام  واجتثاث كل شيءٍ  يتعلّق بهِ، حتى خرجَ لهم  ما هو "ألعن" منه _ داعش _ بنظر البعض!،  وهذا ما كان  يريده النظام السوري، أو بالأحرى  هو الوجه  الآخر له، لكن  بأدوات مغايرة!.

كلنا بات يعرف كيف تعامل النظام السوري وحلفاؤه مع الحراك المدني، وكيف وضع مخططاتٍ لاختراقه وعسكرته وضربه في العصب أمام تخاذل دولي صريح؛ إذ إنه لم تمر بضعة شهور على انطلاقه حتى استطاع تحقيق جزء من مخططه بالعسكرة  وتمزيق  صفوفه!  ولم يقتصر الأمر على بعض المدن السورية التي ثارت في البداية، فكان منهجه واحداً، ويتعامل مع المدن الثائرة والمدن التي تقبع على جمر الانتفاضة بعدّة أساليب مختلفة تنبع من ذات منهج القمع الوحشي.

العسكرة في الشمال السوري

بعد اغتيال المعارض الكردي البارز "مشعل تمّو " في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2011، تغيّرت خريطة الحراك السلمي الجماهيري في "محافظة الحسكة"   ، وأخذ المشهد الثوري انجرافاً مغايراً عن طبيعته من حيث التكتّلات البشرية التي كانت خليطاً من الأكراد والعرب وباقي الإثنيات في المحافظة. إذ بدأت الصراعات السياسية والعسكرية تظهر بشكلٍ واضح، وأصبح الحراك _المنمّق _ من كافة سكان المحافظة حراكاً شبهَ منقسمٍ، لعدّة عوامل، منها استشراس النظام السوري لإظهار تلك الانتفاضة الشعبية بصبّغةٍ _عرقيّة_ بالتوازي مع القمع الممنّهج الذي شهدته المحافظة، إضافةً إلى ذلك، فقدان الوعي الثوري _المنظّم _ عند معظم المكوّنات في الحسكة كحال أغلب المدن السورية لعدم توفّر التجارب والخبرة السياسية في ظل نظام دكتاتوري اضطهد الأكراد قبل العرب وحرمَ أغلبهم من الجنسية السورية.

في نهاية عام 2011 أعلن 16 حزباً كرديّاً ومجموعة من العاملين في الحقل السياسي عن تشكيل "المجلس الوطني الكردي" بغية تنظيم الحراك الثوري السلمي بين أبناء المكوّن الكردي، وضبط المواقف وتوحيدها مع أبناء العشائر العربية في محافظة الحسكة.

وتوازياً مع الحراك السلمي _المظاهرات_ والسياسي أيضاً في المحافظة، كان النظام السوري يعمل على تأجيج المشهد ونقله إلى الفوضى بعدّة أساليب. مستخدماً  الذراع العسكرية  لـ" حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" " وحدات حماية الشعب" لقمع الحراك في بعض مناطق المحافظة، علاوة على ذلك، ساهم الحزب _الجناح العسكري _ في تحجيم قدرة _الجيش الحر_ هناك، من خلال معارك خاضها  ضدّه لاحقاً  منها  في مدينة "رأس العين" السورية،  وقد  منحه  النظام السوري هديّةً "جغرافيّة _ اقتصادية" إذ مكّنه من التواجد في "منشآت الشركة السورية للنفط " بذريعةِ حمايتها؛ عدا عن السماح له بإقامة معسكرات تدريب ضمن المحافظة في بداية الثورة.

وظهرت أيضاً في الحسكة جهات مسلّحة عام 2012 مثال " كتيبة عدي الطايع ــ جبهة الأكراد ــ كتيبة مشعل تمو ــ  سوتورو / المسيحيون الآشوريون "  خبا تواجدها وتضاءل فيما بعد أمام سطوة قوات وحدات حماية الشعب.

 

"قسد" والمصيدة الأمريكية

بدأت "واشنطن" بزيادة  جهودها حول تطبيع العلاقة مع "أنقرة"  فيما يخصّ الشمال السوري، وها هي الداعمة الرئيسة للأكراد الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بسحب البساط من تحت هذه القوة العسكرية بشكل مبدئي.

إن الدعم الأمريكي لـ" _قوات سورية الديمقراطية_  المؤلّفة من 27 فصيلاً عسكرياً  بمكونات " كردية، عربية سورية، مسيحية سريانية آشورية وتركمانية" كما يروّج الأمريكان والتي تأسّست عام 2015، يذهب لأبعد من المعارك الموصوفة بــ"محاربة الإرهاب _ تنظيم داعش"؛ فالمعارك التي خاضتها هذه القوات منذ تأسيسها، تجاوزت ثماني عشرة معركة، توزّعت على ريف حلب الشمالي وريف الحسكة، الرقة وريفها، وريف دير الزور الشرقي أيضاً؛ بعضها كانت ضد _ تنظيم الدولة الإسلامية_ ومنها ضد فصائل الجيش الحر. هذه المعارك، كانت كفيلة بمنظور الأمريكان لقبول هذه القوات ودعمها متجاهلةً كل الفصائل الأخرى التي قاتلت _الفزاعة _   "داعش" منذ ظهوره. وكما نعرف،فإن الأمريكان دائماً يبقون الأوراق الرابحة لآخر اللحظات ضمن ألاعيبهم الدولية؛ يربحون بها حتى لو تمّ إحراقها ! فبكل تأكيد، بعيداً عن الهدف العسكري من وجود هذه القوات، هنالك أهداف و اتفاقات اقتصادية وسياسية ما بين قيادات مناطق الشمال التي تساند هذه القوات والإدارة الأمريكية.

فالأمريكان لا يريدون  لأي مكوّن عشائري أو جيش وطني صِرف _ بعيداً عن أي وصاية _ أو يدٍّ روسيّة الاستقواء والسيطرة على ثروات النفظ والغاز في المنطقة الشمالية الشرقية / دير الزور والحسكة / .. والقواعد الأمريكية هناك أكبر دليل على استراتيجية طويلة المدى بالنسبة لبقائهم بذريعة تهيئة الاستقرار الإقليمي.

والخلاف التركي _ الأمريكي على دعم هذه القوات من الجانب الأمريكي، وتمكينها لبسط سيطرتها على مقربة من الحدود التركية، إضافةً إلى تواجدها في العمق الشمالي الشرقي السوري، يُعتبر بوجهةِ نظر الحكومة التركية تهديداً قومياً سينتج عنه أزمات تطال الداخل التركي وتقوّض من عملية الاستقرار في الشمال السوري.

فبعد تشكيل التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "الإرهاب" في سورية، نرى أنّ "قوات سوريا الديمقراطية" تتقدّم بوتيرة سريعة نحو (تحرير) بعض القرى والمدن بغطاء أمريكي _ ضربات جوية وقصف  مدفعي  وقوات خاصة على الأرض_  . إذن،  هدف التحالف  والأمريكان هو تدمير "تنظيم داعش "؟ فمَ نسمّي عمليات الإنزال الأمريكية في ريف الحسكة ودير الزور مع الحدود العراقية السورية لاعتقال " إجلاء" قادة  بارزين  في التنظيم؟!  وما مدى مصداقية الأقاويل التي تخرج كل حين بأن الأمريكان يستعيدون _ أزلامهم _ المزروعين في هيكلية هذا التنظيم المتشدّد المتواجد تحت مرمى الجميع بما في ذلك "قوات سوريا الديمقراطية" !؟

* ( لو أنّ كلَّ دولةٍ أجْلَت قادتها البارزين في التنظيمات الإسلامية المتشدّدة من داخل سورية، لما بقيَّ سوى بعض الأغبياء الذين تمّ غسل أدمغتهم وتوريطهم في أسطورة نسجتها عقول شيطانية تقبع في غرف أجهزة المخابرات!!).

وما فعلته بعض دول المال السياسي _ الخليج _ بفصائل "الجيش الحرّ" من حيث منع الدعم _الصحيح _ عنه وتغيير صبغته وشرذمته إلى عشرات الألوية والفرق والسرايا التي باتت أغلبها "راديكالية"، شجّع الأمريكان والغرب على عدم دعم "النواة"  الحقيقية للمعارضة المسلّحة، وزادهم إصراراً على رفض أي مكوّن عسكري في الساحة السورية إن لم يكن تحت إمرتهم من كافة النواحي.

وكما يرى البعض من السوريين وغيرهم، أن المقارنة بين " قوات سوريا الديمقراطية" و"جيش الإسلام" و " جبهة فتح الشام  _ النصرة سابقاً " وبعض  فصائل  الجيش الحرّ،  تعتبر  مجحفة بحقّ الأولى.  فعلى حسب اعتقادهم يجدون  "أن قوات سوريا الديمقراطية" انبثقت من رؤية واحدة تجاه هذا الصراع الدموي، وابتعدت كل البُعد عن "الأدلجة" ونشر المعتقدات المذهبية والسعي وراء قيام تكتّلات دينيّة كما فعلت أغلب فصائل المعارضة المسلحة.

بعد عملية غصن الزيتون التي أطلقتها الحكومة التركية مع فصائل الجيش السوري الحر في عفرين شمال غربي سوريا بهدف طرد "وحدات حماية الشعب " المكوّن الرئيس لـ "قوات سوريا الديمقراطية"، بدأت "واشنطن" بزيادة  جهودها حول تطبيع العلاقة مع "أنقرة"  فيما يخصّ الشمال السوري، وها هي الداعمة الرئيسة للأكراد الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بسحب البساط من تحت هذه القوة العسكرية بشكل مبدئي بعد نجاح قوات غصن الزيتون بالسيطرة على المدينة، وتمشيطها لإعادة السكّان الأصليين حسب هدف العملية.

فالعملية الأخيرة التي سوف تشنّها "قوات سوريا الديمقراطية" نحو  شرقي  نهر الفرات لطرد ما تبقى   من  عناصر   "تنظيم  الدولة  الإسلامية"   في   محافظة  دير الزور،  ستكون  "مسك الختام" لشراكة _أمريكية_ كرديّة_ تحاول الولايات المتّحدة الأمريكية إظهارها دائماً بطابعٍ  مُنمّقٍ تحت اسم "قوات تحالف من جميع المكوّنات" ..   

وها هو تحالف المكوّنات السورية _ قوات سوريا الديمقراطية _ قد جال وصال في الشمال والشرق السوري، وخاض معاركَ كثيرة أبرزها معركة الرقة، واكتسبَ شعبيّة واسعة من قبل الغرب والأمريكان، علاوة على بعض الشرائح السوريّة؛ فإن عمدَ الأمريكان على إبقاء هذه القوات _ لإدارة مصالحهم الاقتصادية _ في مناطق الثروة الباطنية التي تعتبر جلّها من العشائر العربية، سنشهد سيناريوهات جديدة قد تؤدي إلى فتح جبهات دامية بسبب الحساسية التاريخية بين الأكراد والعرب التي غذّاها النظام السوري ومن بعده أطراف الحرب السورية.  

في النهاية، بعد الاتفاق الأمريكي _ التركي _  على خارطة طريق بشأن مدينة منبج شمال سوريا / عقب اجتماع بين  وزير الخارجية  التركي  "مولود جاويش أوغلو"  ونظيره الأمريكي "مايك بومبيو" في واشنطن، وضع ضمنه جدول زمني لانسحاب "وحدات حماية الشعب"  التي تعدّها "أنقرة" تنظيماً إرهابياً، خلال 30 يوماً، وتسليم المدينة لمجلس عسكري يوفّر الأمن والرعاية للتركيبة السكانية التي يشكّل العرب منها 90 % .

فسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" على عدّة مدن وقرى بعد معاركها التي خاضتها في الشمال والشرق السوري، بدأ ينحسر، أو بالأحرى  أخذ يتساقط ضمن اتفاقيات دولية _إقليمية، وآخرها رغبة " أنقرة" بتوسيع الاتفاق مع "واشنطن" ليشمل محافظة الرقة أيضاً.

فهل كميّة الدماء التي قدّموها "أبناء الشمال السوري" في معاركهم تحت لواء "قوات سوريا الديمقراطية" ستكون زهيدةً  الثمن بنظر الأمريكان الداعم الأول لهم؟!

أم أنّ ثمّة خبايا _ مكافآت جغرافيّة_ لزيادة الضغوطات على الحكومة التركية سوف تمنحها الولايات المتحدة الأمريكية للأكراد بالدرجةِ الأولى كتعويض عن تحالفهم معها؟