قضية القس برونسون من التأزم الحاد إلى بداية الحلحلة

2018.08.06 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أعطى اللقاء الذي تم في سنغافورة، على هامش اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بين وزيري الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو والأميركي مايك بومبيو، إشارات إيجابية بشأن احتمال حلحلة الأزمة الحادة التي تمر بها العلاقات بين بلديهما على خلفية محاكمة القس الأميركي أندرو برونسون أمام إحدى المحاكم التركية. وقد لوحظ ابتعاد الرئيس التركي ووزير خارجيته، في الأيام الأخيرة، عن إطلاق تصريحات تصعيدية، وتركيزهما على وجوب حل المشكلة بالحوار لا بالتهديد والوعيد.

ثمة قناتان للحوار تعملان، بعيداً عن الإعلام، على إيجاد حل مرضٍ للطرفين يحفظ ماء الوجه، بعد توتر شديد أنتج، إلى الآن، فرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، ورد أنقرة بالمثل. وتعتبر هذه العقوبات (تجميد الممتلكات والأموال الشخصية والحرمان من تأشيرات الدخول) رمزية ومنذرة بعقوبات أخرى أكثر قسوة من شأنها ضعضعة الاقتصاد التركي الذي يمر، أصلاً، بفترة حرجة، القناة الأولى هي بين وزيري خارجية البلدين، والثانية بين مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون والمستشار الرئاسي التركي إبراهيم كالن.

مع العلم أن المسؤولين الأميركيين المذكورين لا يكنان أي ود تجاه تركيا، بل يعدهما بعض المحللين الأتراك ضمن مجموعة ضغط مناوئة لتركيا داخل الإدارة الأميركية، ربما هذا التصور هو ما دفع بالرئيس أردوغان إلى القول، يوم السبت، إن الرئيس ترمب، في تصعيده ضد تركيا، وقع ضحية تلاعب، في محاولة منه لعزل التأثيرات السلبية المحتملة على ترمب الذي سبق وأبدى إعجابه، في أكثر من مناسبة، بأردوغان.

العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على وزيرين في حكومة أردوغان، هما ذروة التصعيد بين الحليفين الأطلسيين، على رغم قيمتها الرمزية، لا سابقة لها في تاريخ العلاقات الثنائية بينهما

وبلغ الأمر ببعض المتشائمين، في الرأي العام التركي، أنهم استدعوا ذكرى القطيعة التركية – الروسية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي لحظة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث، اتجهت أنقرة، بعدها، إلى الانضمام في حلف شمال الأطلسي احتماءً من الاتحاد السوفييتي الذي طالبها بالإشراف على المضائق وبأراض واسعة في شرق الأناضول. ذلك أن العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على وزيرين في حكومة أردوغان، هما ذروة التصعيد بين الحليفين الأطلسيين، على رغم قيمتها الرمزية، لا سابقة لها في تاريخ العلاقات الثنائية بينهما. وبالنظر إلى انضواء تركيا، في الصراع السوري، داخل "ثلاثي أستانة" مع كل من روسيا وإيران، فقد حذر بعض المراقبين من أن يؤدي هذا التصعيد غير المسبوق إلى إعادة تموضع تركية كاملة في تحالف يجمعها مع إيران وروسيا، أو الانضمام إلى "مجموعة بريكس" التي شارك أردوغان في اجتماع قمتها الأخير في جنوب إفريقيا، وقطع جميع الجسور مع شركائها التقليديين عبر الأطلسي.

تقول المصادر الأميركية إن أردوغان وعدهم بإطلاق سراح القس برونسون بعد الانتخابات العامة والرئاسية التي جرت في 24 حزيران الماضي. وإذ مضت أسابيع على ذلك الموعد ولم يطلق سراحه، ارتفع منسوب الاستياء لدى الإدارة الأميركية، وبخاصة نائب الرئيس مايك بنس الذي ينتمي إلى نفس الطائفة الإنجيلية التي ينتمي إليها برونسون، وقد وعد بنس تلك الجماعة الدينية باستعادة برونسون إلى وطنه.

من المحتمل، وفقاً لتسريبات مطلعين على الملف، أن الأتراك أخطأوا في حساباتهم لردة الفعل الأميركية التي لم يتوقعوها بهذه القسوة

من المحتمل، وفقاً لتسريبات مطلعين على الملف، أن الأتراك أخطأوا في حساباتهم لردة الفعل الأميركية التي لم يتوقعوها بهذه القسوة. فأضافوا إلى شروطهم لإطلاق سراح برونسون بنوداً إضافية أفشلت الصفقة المتفق عليها، وهي أن تعيد واشنطن مدير مصرف "هلك بنك" الحكومي هاكان أتيلا المحكوم بالسجن سنتين ونصف في الولايات المتحدة، وخفض العقوبة المالية المتوقعة على البنك نفسه إلى أدنى ما يمكن. البنك ومديره متهمان بخرق العقوبات التي كانت مفروضة على إيران، منذ سنوات، قبل التوقيع على الاتفاق النووي في العام 2015، عن طريق تجارة النفط مقابل الذهب. كانت الصفقة على وشك أن تتم، حين قال أردوغان في أحد خطاباته "نعطيهم القس مقابل القس" والمقصود بالقس الثاني هو فتح الله غولن الذي يقيم في الولايات المتحدة، وتتهمه الحكومة التركية بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، وقامت بتصفية عشرات الآلاف من المشتبه بعلاقتهم بالداعية الإسلامي سجناً أو طرداً من الوظيفة الحكومية.

وعلى هامش قمة بروكسل لحلف شمال الأطلسي التي انعقدت في 11 تموز الماضي، طلب أردوغان من ترمب المساعدة على إطلاق سراح الناشطة التركية أبرو أوزكان الموقوفة في إسرائيل بتهمة "التآمر مع منظمة حماس الإرهابية للقيام بأعمال مؤذية ضد إسرائيل". وبالفعل تم إخلاء سبيل أوزكان وعادت إلى بلادها بعد بضعة أيام، بطلب من ترمب كما يقال. أما القس الأميركي برونسون فقد قررت المحكمة نقله من السجن إلى الإقامة الإجبارية في بيته في إزمير، بدلاً من إخلاء سبيله وترحيله إلى الولايات المتحدة. ويحاكم برونسون بتهم عجيبة من نوع "التآمر مع منظمتين إرهابيتين هما جماعة فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني" لتقسيم تركيا إلى أجزاء صغيرة وإقامة كردستان مسيحية! اتهامات ترى واشنطن أنها مفبركة ولا أساس لها.

وفي حين التزم ترمب بوعده فساعد على إطلاق سراح الناشطة الإسلامية التركية أوزكان، لم يلتزم أردوغان بوعده بإطلاق سراح برونسون

وفي حين التزم ترمب بوعده فساعد على إطلاق سراح الناشطة الإسلامية التركية أوزكان، لم يلتزم أردوغان بوعده بإطلاق سراح برونسون. وهكذا بدأت تهديدات ترمب وبنس بفرض عقوبات قاسية على تركيا، عبر تغريدات على موقع تويتر، لم يحمل الأتراك تلك التهديدات على محمل الجد، فتحولت إلى حقائق. وتهدد واشنطن بعقوبات إضافية من شأنها حرمان تركيا من الحصول على أي قروض خارجية، في حين قرر الكونغرس تأجيل تسليم طائرتي F35 مدفوعتي الثمن سلفاً، كما تحتاج تركيا إلى الموافقة الأميركية لبيع طائرات هليكوبتر مصنعة في تركيا إلى الباكستان.

الحل الدبلوماسي لهذه الأزمة مشروط بإطلاق سراح برونسون وإعادته إلى الولايات المتحدة. وهناك موقوفان أميركيان آخران في تركيا، تطالب واشنطن بإطلاق سراحهم أيضاً. سنرى، في الأيام القادمة، كيف سيتم إخراج هذا الحل أمام الرأي العام التركي الذي تمت تعبئته ضد التهديدات الأميركية، ويحتاج إلى ثمن أميركي مقابل التنازل التركي لكي لا تبدو تركيا في موقع المنحني أمام رياح التهديدات والعقوبات.