قصة تنظيم «فتح الإسلام»

2019.06.02 | 20:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد تسع سنوات من المقابلات وجمع الوثائق أصدر الصحفي والمراسل الحربي البريطاني-الفلسطيني مديَن ديرية كتابه «فتح الإسلام: النشأة والمصير» منذ أشهر.

تكتسب دراسة هذا التنظيم أهمية خاصة في فضاء الحركات السلفية الجهادية، لأنه المثال الأول الذي يُطرح عادة لفكرة شديدة الشيوع عن تحكم أجهزة الأمن السوري بمجموعات قاعدية وتلاعبها بأجزاء من هذا التيار وتسخيره لخدمتها داخل البلاد وفي الدول المجاورة وحتى العالم. وقد أسهمت السرعة المفاجئة التي ظهرت بها «فتح الإسلام» واختفت في قسط كبير من غموض صورتها، خاصة مع الحرب الإعلامية الشرسة التي رافقت الأحداث الدرامية الدامية لولادتها والقضاء عليها في مخيم «نهر البارد» للاجئين الفلسطينيين قرب ميناء مدينة طرابلس. عندما أصر الخطاب الحكومي اللبناني على أن الحركة صنيعة المخابرات السورية التي أرسلتها، في حين ردت المعارضة اللبنانية، ومن ورائها حليفها النظام السوري، باتهام «تيار المستقبل»، الذي كان يهمين على الحكومة، بدعم الحركة التي كانت تخطط للقيام بأعمال إرهابية في سوريا!

يخيب ديرية أمل الباحث عن قصة مثيرة تحبس الأنفاس حول «توظيف» الجماعات الجهادية في «أجندات» كبرى لأداء مهمات «خفية»، نتيجة «اختراقات» في القيادة تخفى على العناصر المتحمسين حسني النية الذين لا يعلمون «خبايا» ظهور هذا التنظيم أو ذاك، ولا «التباس» إعداد مؤسسه في أقبية المخابرات وسجونها، لتبقى قصة التنظيم «لغزاً» حتى بعد انطفائه، دون أن نستبين شيئاً ذا بال عن «حقيقة» دوره!!

ببساطة، يقول ديرية إنك تستطيع أن تعرف إذا جمعت أطراف الحكاية... هل تبدو هذه الفكرة غريبة؟!

ولد شاكر العبسي، مؤسس «فتح الإسلام»، في أريحا بفلسطين عام 1955. شارك مبكراً في العمل المسلح منضماً إلى «فتح». وحين انشق أحد أجنحة الحركة، عام 1983، في ما عرف باسم «فتح الانتفاضة» وقف هذا الطيار الحربي مع المنشقين

ولد شاكر العبسي، مؤسس «فتح الإسلام»، في أريحا بفلسطين عام 1955. شارك مبكراً في العمل المسلح منضماً إلى «فتح». وحين انشق أحد أجنحة الحركة، عام 1983، في ما عرف باسم «فتح الانتفاضة»، وقف هذا الطيار الحربي مع المنشقين، بينما كان يترقى مهنياً حتى استقال من سلاح الجو الليبي عام 1995 وأقام في حي الحجر الأسود بدمشق.

في العاصمة السورية صار العبسي جزءاً من قيادة تنظيمه، ومسؤولاً كبيراً فيه برتبة عقيد، فرأى أن ما دفعه إلى الانشقاق عن ياسر عرفات صار أحد سمات الذين تمردوا عليه لجهة إهمال الكفاح المسلح، بعد أن اقتصرت الحركة على مكاتب متخشبة لتنظيم الاحتفالات الخطابية في إطار النظام السوري.

أثناء مسيرته، التي لم تنطلق من أفكار أو آيديولوجية سوى النزوع الفتحاوي، كان العبسي يزداد تديناً؛ يواظب على صلاة الجماعة، يحفظ القرآن حتى أتمّه، إلى أن قادته العلاقة مع بعض أفراد «الجماعة الليبية المقاتلة» إلى السلفية الجهادية الصاعدة، التي اهتم بوجهها المحارب دون أن يصبح سلفياً كفاية.

بين الأردن، بلد جنسيته، وسوريا، موطن إقامته، سيحاول العبسي أن يفعل شيئاً، حتى تقبض عليه سلطات دمشق بعد أن قدّم سلاحاً لمجموعة في الجولان بهدف تهريبه إلى الأراضي المحتلة أو استخدامه ضد الإسرائيليين إبان الانتفاضة الثانية. ونتيجة لذلك سيُحكم بثلاث سنوات ويخرج بعد إنهائها بمدة وجيزة.

في مطلع 2006، عقب الإفراج عنه، سيبدأ ببناء تنظيمه من شبان خرجوا معه نتيجة «عفو» أصدره بشار الأسد وشمل وقتها ما يقرب من ثلث نزلاء سجن صيدنايا من مختلف التيارات. وسيقنع راعيه في الحركة، الرجل الثاني فيها، أبو خالد العملة، بتشكيل مجموعة جهادية سنّية على غرار «حزب الله» الذي كان يمثل نموذجاً براقاً للـ«مقاومة»، ولا سيما عندما أشعل حرب تموز مع إسرائيل بعد ذلك بأشهر، وكان العبسي قد انتقل إلى بيروت لترتيب شؤون أفراد مجموعته واستقبالهم في مقرات «فتح الانتفاضة» ومنحهم البطاقات باسمها.

في مطلع 2006، عقب الإفراج عنه، سيبدأ ببناء تنظيمه من شبان خرجوا معه نتيجة «عفو» أصدره بشار الأسد وشمل وقتها ما يقرب من ثلث نزلاء سجن صيدنايا من مختلف التيارات. وسيقنع راعيه في الحركة، الرجل الثاني فيها، أبو خالد العملة، بتشكيل مجموعة جهادية سنّية على غرار «حزب الله»

كان التحول الذي بدأ العقيد بإحداثه في أحشاء الحركة أكبر من الإخفاء؛ إذ لم يقتصر على تجنيد إسلاميين في قلب جماعة علمانية، بل اجتذبت كتلته النامية مجاهدين عرباً لم يكن وجودهم ليمر دون إثارة ريبة مسؤولي «فتح الانتفاضة» المحليين وسواهم من الفصائل، فكان لا مفر من الصدام الذي حصل أخيراً في مخيم «البداوي»، وكانت نتيجته انسحاب خلايا المجموعة الناشئة إلى مخيم «نهر البارد»، حيث استولت على معسكر «صامد» التابع للحركة الأم وأعلنت عن قيام «فتح الإسلام» في تشرين الثاني 2006.

من خارج الكتاب سنتابع ما جرى في دمشق، حيث سيثور غضب آصف شوكت، صهر العائلة الحاكمة ورئيس المخابرات العسكرية، لهذا «اللعب» بأمن البلاد، فيأمر باعتقال أبو خالد العملة وعدد من المقربين منه عائلياً وتنظيمياً. وعندما ستنجح الوساطات السياسية، بعد مدة قصيرة، في الإفراج عنه والاكتفاء باحتجازه في بيته نتيجة إصابته بمرض القلب؛ سيخرج العملة ليجد أن قيادة الحركة قد فصلته بالإجماع وفتحت له دفاتر فساد مالي عريض وامتلاك ثروة عقارية داخل سوريا وخارجها. لن يستعيد أبو خالد مكانته خلال سنوات تالية سيقضيها مهمَلاً، حتى وفاته في 2012 وتشييعه بجنازة محدودة.

في «نهر البارد» سيتابع العبسي، الذي صار يُعرف بالحاج أبو حسين، رفد تنظيمه بالوافدين من الفلسطينيين السوريين، والسوريين، والمهاجرين العرب. ورغم أن عددهم لن يتجاوز 250 مقاتلاً إلا أنهم سيصبحون القوة الأبرز في هذا المخيم الصغير، وبوجود عائلاتهم سيشكلون ظاهرة تلفت أنظار العالم المتوجس من آثار «القاعدة»، بينما حارت الفصائل الفلسطينية في التعامل معه حرصاً على تجنب الصدام وسلامة السكان. لكن كل شيء سينفجر في 20 أيار 2007، عندما ستهاجم السلطات اللبنانية شقتين اتخذهما التنظيم كمقرّين في طرابلس وتقتل قاطنيهما، بمن فيهم من قاموا في اليوم السابق بالسطو على أحد البنوك، في آخر عملية من تلك التي اعتمدها التنظيم وسيلة للتمويل في ظل ضعف إمكاناته وبالاستناد إلى ربوية هذه المصارف.

كانت محاولة الحركة الارتباط بجهة أمتن تنظيمياً وأقوى مالياً قد تعثرت بعد زيارة اطلاعية لمسؤول شرعي موفد من «دولة العراق الإسلامية» الناشئة رأى أن «فتح الإسلام» لا تقيم الشريعة في نطاق سيطرتها. حاجج العبسي أن تنظيمه فلسطيني في نهاية المطاف، وأن استمراره القلق متوقف على تغطية من الفصائل التي ترتبط مع السلطات اللبنانية بتفاهمات واتفاقات حول المخيمات، وأن هدفه هو الإعداد لقتال إسرائيل، وأن الحاضنة الشعبية النسبية التي حازها ستنفر عند تحويل المخيم إلى «ولاية» إسلامية. لكن الموفد السعودي بيّن حرمة التعاون مع الفصائل الأخرى أصلاً، وأوصى بعدم قبول البيعة.

كانت التيارات داخل «فتح الإسلام» تتصارع بأخوية غير موحدة التوجه ولا منضبطة الصلاحيات، وأخذت الأحداث تتسارع وتتعقد. فعندما سافر أبو الليث، صهر العبسي والمسؤول الأمني للتنظيم، إلى «الدولة» لمتابعة الأمر؛ اشتبك مع قوة من المخابرات السورية على الحدود مع العراق وتمت تصفيته مع مجموعته قبل مدة قصيرة من اندلاع معركة «نهر البارد»، التي استمرت أكثر من 100 يوم وأدت إلى مقتل حوالي 170 من القوات المهاجمة و120 من التنظيم وتهجير أربعين ألفاً هم سكان المخيم الذي دمر 80% منه.

ألقت الأجهزة الأمنية اللبنانية القبض على عدد من الفارين، فيما تمكنت مجموعة صغيرة من النجاة، بينها العبسي، لتقضي أكثر من شهر متخفية في البساتين المحيطة تعيش على أوراق الشجر، إلى أن تتصل بأحد المتعاطفين الذي سينقلها سراً ويعتني بها حتى تدور حوله الشبهات، فيضطر العبسي إلى عبور الحدود تهريباً إلى سوريا مجدداً، حيث كانت أشلاء التنظيم تعيش وضعاً بالغ الصعوبة لكنها تحاول أن ترمم بنيتها، لا سيما بعد أن علمت بنجاة العبسي الذي دارت أقاويل كثيرة عن مقتله في المعركة.

ستنشط أربع منهن في ذلك، وسيكون لإحداهن دور مميز عندما سترتبط من جديد بأحد أفراد التنظيم وتستطيع الإبلاغ عن اجتماع سيحضره العبسي في شقة ببلدة «المليحة» بريف دمشق

وفي هذه المرحلة تم الاختراق...

فقبيل انتهاء الاشتباكات بمدة وجيزة استطاعت بعض الجهات الإسلامية التوسط لإخراج عائلات مقاتلي التنظيم لإنقاذها من الموت المتقدم. وفي ظل رأي عام لبناني مؤيد للجيش ومعركته عانت الخارجات من التضييق والنظر إليهن كإرهابيات حتى قررت السلطات تسليم «الأجنبيات» منهن إلى بلدانهن. وهكذا صارت السوريات، وهن العدد الأكبر، في قبضة آصف شوكت وجهاز الأمن العسكري؛ نسوة تائهات في العشرينات، بطفل أو طفلين ربما كان أحدهما جريحاً، خارجات من جحيم القصف وانهيار المباني والاختناق بالغازات السامة، بزوج قتيل أو مفقود. وبعد انتهاء التحقيق المرعب معهن في فرع فلسطين كانت التعليمات تقضي بوجوب «التعاون».

ستنشط أربع منهن في ذلك، وسيكون لإحداهن دور مميز عندما سترتبط من جديد بأحد أفراد التنظيم وتستطيع الإبلاغ عن اجتماع سيحضره العبسي في شقة ببلدة «المليحة» بريف دمشق. يروي الجوار قصة اشتباك غير مفهوم جرى يومها، أخرجت قوات الأمن بعده ثلاث جثث وثلاثة أسرى. لا يُعرف بالضبط إن كان العبسي من الأولين، غالباً، أم أنه اعتقل وأعدم لاحقاً، لكن المؤكد أن أحداً لم يره بعد ذلك اليوم من تموز 2008.

لا خفايا، إذاً، ولا سراديب، ولا شيء استثنائياً عن مغامرات السلفية الجهادية التي تبدأ بالنشيد وتنتهي بالنشيج. على الأقل حسب رواية شهود مدين ديرية الذي التقى بأفراد كثر متبقين من الجماعة، والتي تتطابق مع شهادات آخرين عرفوا العبسي في سجن صيدنايا وخلال حياة تنظيمه، ومع مصدر ثانٍ بالغ الأهمية والتفصيل هو «القرار الاتهامي الذي أصدره قاضي التحقيق في أحداث نهر البارد».