قرض القرطاسية وأنياب الجوع

2018.08.30 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أعلنت المؤسسة السورية للتجارة، استنادًا إلى قرار رئاسة مجلس الوزراء منذ أيام، عن قرار ينص على البدء ببيع المواد القرطاسية المدرسية بالتقسيط عن طريق منح قروض بدون فوائد للعاملين في الدولة يشمل الموظفين الحكوميين الدائمين والمعينين بعقود سنوية وغير المنتهية عقودهم خلال فترة التقسيط. ويكون القرض بضمانة الراتب الشهري للموظف، الراتب الذي لا يصل إلى مستوى القرض البالغ خمسين ألفًا، بعد أكثر من عشرين سنة خدمة، أي ما يعادل مائة دولار، على أن يتم إنفاقه في مراكز المؤسسة العامة للتجزئة والحصول على فواتير بالمواد المشتراة وتقديمها لمحاسبه في الدائرة التي يعمل بها، وعممت المؤسسة السورية للتجارة التابعة لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على جميع منافذ البيع ومراكز الجملة والمستودعات لائحة بأسعار مواد القرطاسية المعروضة لديها.  

أضرم القرار فتيل الجدالات الحامية على مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت المتنفس الوحيد لأولئك المظلومين المقموعين العاجزين عن وضع حلول لمشكللاتهم وأولويات لحياتهم بعد أن جرفتهم الحرب السورية إلى دوامتها من دون أن يكون لهم رأي أو إرادة فيها. تعليقات تنم عن عمق الجروح وتمكن الخيبة واليأس في نفوس الناس، أحد التعليقات يقول: "مشكورين سيادة رئيس الوزراء على ولا شيء يلي عم تقدموه للشعب من خلف الشاشات والمكاتب ياريتكن بس تعيشوا نهار متل ماعايش هالشعب لشوف رح تتحملوا؟ بس لبدوق العصي مو متل لبعدا وبيطلعوا بقلولك الأزمة خلصت والشباب يلي ع الجبهات والناس المهجرة والجوع لعم ياكل دم هالشعب والتشرد والإرهاب يلي لسا عم يفتك بهالأرض؟ بجوز خلصت الأزمة بالنسبة الكن لأن ماضل شي أكتر لتاخدوا مننا" وتعليق آخر يقول: " هينة إذا وقفت عالقرطاسية بس...الله يعين يلي عندو ولاد بالمدرسة مصروف وآجار طريق وحق كتب ووووووو.....بكرا بيصرحوا يلي مامعو مصاري يعلم ولادو لا يدخلن مدارس...متل ماصرحوا يلي مامعو مصاري لا يسجل تعليم مفتوح...ويلي مامعو مصاري لا يكفي دراسات عليا...عفكرة يعني وللتنويه تلات أرباع الناس يلي مافيا تشتري قرطاسية مانن موظفين وماعندن راتب لياخدو قرض عليه..."

في الواقع فإن الشعب السوري موزّع بين فئتين: فئة عرفت وتعرف النهم وليس الشبع، وتقبل بشهية جامحة على وجبات مترفة بدم السوري وجسده وكرامته وأمنه وحلمه وراحة باله وحياته، هي تجار ومافيات الحروب والأزمات متحالفة مع أدوات النظام والسلطة والنفوذ، والفئة الأخرى الغالبة، أفرادها جياع... جياع.

لم ينتفض الشعب السوري لأجل لقمته فلم يكن لفقره أنياب تعض انتفض لأجل كرامته بالدرجة الأولى

لم ينتفض الشعب السوري لأجل لقمته، فلم يكن لفقره أنياب تعض، انتفض لأجل كرامته بالدرجة الأولى، لكن بعد سنوات ثمان دامية نبتت أنياب الجوع فيها وصارت تعض أحشاءه وكرامته وأمنه. رغيف الخبز الذي هو رمق الحياة عند غالبية الشعب، غلا ثمنه وتردى وضعه، لم يعد الرغيف مدعوماً بعد أن صارت أولوية الدعم هي لآلة الحرب، الخضار والفواكه الموسمية صار التفكير فيها مخيفاً بعدما ارتقت مراتب أعلى من قدرة المواطن على بلوغها، الأسرة السورية التي لديها أولاد في عمر الدراسة لم تعد قادرة على تأمين طعام أكثر من خبز وشاي، حتى المعونات التي تقدّم للشعب السوري تُصرف ويتاجر بها وفق إرادة الفساد، سوق سوداء تتاجر بحياة السوريين فتبيعهم ما يبقيهم على قيد الحياة فقط مصابين بفقر الدم وفقر المخيلة وفقر الحيلة والتدبير، ويأتي موسم افتتاح المدارس كل عام حاملاً معه هموم الآباء وشعورًا بالمهانة بسبب ضيق الحال إلا لمن تحالف مع آلة الفساد ومنظومة اقتصاد الحرب.

ليست المدرسة قرطاسية فقط، ولا تبنى الأجيال بدفتر وقلم لا يستخدمان بطريقة إنسانية، للتعليم الذي هو أساس بناء المجتمعات والأمم بنى تحتية لا تمشي العملية التربوية بدونها، في سوريا وضع المدارس مزرٍ، وهذا الوضع يعود لسني الفساد التي سبقت أزمتها وأدت إليها، وصار ما بقي منها مرصودا لصالح التعليم ولم يُصادر لصالح إدارة الأزمة أو تلك التي دمرتها الحرب، في وضع أكثر مأساوية. التلميذ في الصف مهان، فلا مقاعد تصلح لجلوس كأنه عقوبة، ولا نوافذ سالمة ولا أبواب تخدم ولا تدفئة في أيام البرد، ولا دورات مياه صالحة لقطيع من مخلوقات أدنى، ولا مخابر أو وسائل إيضاح ولا مكتبات ولا ملاعب لممارسة الرياضة، لا شيء من مقومات المدارس إلا غرف الصفوف التي يحشر فيها التلاميذ بأعداد أكثر من استيعابها، ومنابر قد لا يجد المدرس عليها كرسيًا يرتاح لدقيقة من الوقوف.

هذا بالنسبة إلى البنية التحتية، أما المدرسون فلا طاقة لهم في غالبيتهم على إعطاء ما يُطلب منهم من المنهاج المقرر حتى لو كان تلقينًا، فالمدرس الذي لا يكاد راتبه يكفيه لسداد إيجار بيته أو سداد فواتيره الشهرية، سوف يلهث خلف الدروس الخصوصية ويأتي إلى مكان عمله الوظيفي نافد القوى والرغبة، والأهل الذين يلهثون لتأمين لقمة العيش لأولادهم يلهثون خلف تأمين فرص عمل إضافية مهما كان نوع العمل لتأمين مخصصات الدروس الخصوصية لأبنائهم بالأخص في مرحلة الشهادات، ليبدأ مشوار آخر من القهر والعجز في سبيل تحقيق حلم تعليم أبنائهم في الجامعات التي أدخلتها القوانين الجديدة في بازارات الخصخصة الرخيصة.

ليس هذا فحسب، بل ما زال هناك نظام اسمه اللباس المدرسي، وكأن التلاميذ يدخلون كليات حربية وليس مدارس يتلقون فيها العلم، لماذا اللباس المدرسي الموحد الذي صارت كلفته عبئًا يجلب همًا إضافيًا للآباء؟ أم لايزال ضرورة أساسية وأولى من ضرورات تأسيس الكوادر البشرية في خدمة أهداف النظام، وشكلاً أوليًا لصهر الجميع في بوتقة واحدة تنعدم فيها الفردية وتمسخ الشخصية لصالح الجماعة، فيُقضى على إمكانيات الإبداع والتفكير إلا من خلال الأنساق الفكرية التي يتشربها التلاميذ منذ مراحل تعليمهم الأولى؟ 

لم ينل المواطن السوري حريته، لا بل نال عوضاً عنها حرباً دمرت الوطن وفككت المجتمع وحصدت الأحلام

دفع الشعب كثيرًا، وما زال يدفع فواتير الصراع على السلطة في سوريا، لم ينل المواطن السوري حريته، لا، بل نال عوضاً عنها حرباً دمرت الوطن وفككت المجتمع وحصدت الأحلام وزرعت في الصدور الضغينة وفي النفوس نار الفتنة، فصار عبداً لشروط الحرب ومغلول اليدين بحديد مدبريها ومحرّكيها. ولا يزال يدفع الفواتير العينية، لتلحق به قرارات وقوانين تزيد في إذلاله وامتهان كرامته، السوري بحاجة إلى دولة قوانين ومؤسسات، ليس الحل بقروض قرطاسية وبطاقات ذكية توهم بموجبها الحكومة أنها تفكر به وبقضاياه بينما الواقع أن الفساد الذي كان متغولاً في حياة المواطنين في العقود السابقة، الذي كان ركنًا من أركان دوام النظام القمعي، ازداد تغولاً على هامش الحرب فلا البطاقات الذكية سوف تقضي على تجارة تهريب المحروقات، ولا قروض القرطاسية سوف تنقذ العملية التربوية من استنقاعها، بحجة أن البلاد تمر بمحنة عظيمة مطلوب من الشعب احتمال نتائجها والتصدي للمؤامرة، فعليه دفع الفواتير صاغرًا، يحمد الله على نعمته وعلى أنه ما زال على قيد الحياة.