قراءة في سينما زياد الدويري

2019.08.16 | 20:54 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في مشاهدة متتالية لفيلمي زياد الدويري الأخيرين ،(الصدمة.2012) و(القضية23، الإهانة ،2017)..نتلمس وبوضوح شديد نزوع المخرج المركز والدقيق لقراءة القضية الفلسطينية من منظور مختلف تماماً،

فالرجل الذي أبهر النقاد والجمهور برائعته (بيروت الغربية)، قدم في هذا الفيلم قراءته وتصوره عن الحرب الأهلية اللبنانية كما شاهدها وعاصرها بنفسه، قرر أن يكمل مشروعه الفني والسياسي السينمائي بتقديم قراءته الشخصية للحياة اللبنانية حيث تتداخل هناك السياسة بالخبز اليومي للإنسان، والطائفي والديني بالحياة اليومية للجميع، من هذا المنطلق اقترح الدويري موضوعة الجدلية الفلسطينية وقراءة القضية الفلسطينية التي لا تزال في مركز الجدل الشرق أوسطي بعد أن نزلت القضية من الشعار إلى الإنسان وبعد أن باتت تلك القضية مثار تساؤل المواطنين العرب وليس أنظمتهم القمعية فقط، يقترب دويري من فلسطين عبر زاويتين حادتين تماما، وجارحتين أيضاً، الزاوية الأولى هي معالجة فكرة التعايش مع الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، والثانية هي التعايش مع الفلسطيني داخل الأراضي العربية.. وهاتان الجدليتان هما من أكثر المواضيع المسكوت عنها في خضم القضية الفلسطينية، هناك حيث يعلو الصوت المطلبي والشرطي والسياسي والعسكري والأممي، ويختفي تماماً البعد الإنساني للمكون الأساسي للقضية الفلسطينية، ألا وهو الإنسان الفلسطيني ورغباته، أو كما نرغب في تسميته الفلسطيني الجديد ..

ذلك الفلسطيني الجديد الذي يشبه إلى حد كبير السوري الجديد والمصري الجديد وكذلك أيضاً يشبه الإسرائيلي الجديد، وجميعهم منحازون للإنسان

ذلك الفلسطيني الجديد الذي يشبه إلى حد كبير السوري الجديد والمصري الجديد وكذلك أيضاً يشبه الإسرائيلي الجديد، وجميعهم منحازون للإنسان وللعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة وحقوق الإنسان تتملك وعيهم جيداً بعد أن باتت تلك الحقوق واقعاً حقيقياً وليست شروطاً على ورق الحالمين.

في فيلمه (الصدمة ) يقترح زياد الدويري ،قضية طبيب فلسطيني ناجح منتمٍ بالكامل للمجتمع الإسرائيلي ،وهو يعمل في أحد أكبر وأنجح مشافي تل أبيب ويتحدث العبرية بطلاقة، وجُل مرضاه من الإسرائيليين الذين احتضنوه واعترفوا فيه لأنه اعترف بقيمهم كما يتردد في الفيلم.. ولكن كل شيء ينهار حينما يعلم الدكتور الفلسطيني بأن زوجته المسيحية الفلسطينية أيضاً، هي من قامت بتفجير نفسها في مطعم حيث قتل 17 شخصا منهم سبعة أطفال، في تلك الدوامة النفسية الرهيبة، يجد الدكتور نفسه بين فكي كماشة هائلة، بين قيم المجتمع السلمي المسالم الذي اعترف به وأعطاه كينونته ونجاحه كجراح، وبين دمه الفلسطيني الذي بات الجميع ينظر إليه بناء على ما فعلت زوجته.

هو موقف درامي بارع جداً ودقيق جداً وحساس جداً، نسجه الروائي الفرنسي ( ياسمينا خضرا) في روايته  (الصدمة) التي لاقت نجاحاً كبيراً في فرنسا وباعت أكثر من مليون نسخة، وعنه استل السيناريو زياد الدويري وزوجته السابقة جويل توما ..

إذاً ما يريده الدويري هو وضع الإنسان الفلسطيني المعاصر، الذي اضطر إلى البقاء تحت حكم الدولة الإسرائيلية فيما يسمى بأراضي الـ 48.. ونال أغلب هؤلاء العرب الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية وباتوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، أراد وضعهم في مواجهة الواقع السياسي الذي يرفض أن يعيش أي فلسطيني في العالم حياة طبيعية بسبب إشكالية الهوية وإشكالية القضية، فهنالك من الفلسطينيين من يرفض تلك الحياة ويرفض ذلك الاندماج الحاصل بين اليهود والفلسطينيين في فلسطين الجديدة التي يسمونها إسرائيل، فعبث بعقل الزوجة الجميلة المسيحية، التي تذهب بكامل قناعاتها لتنتحر ( حسب تعبير البطل في الفيلم ) لتدمر حياتها وحياة زوجها وحياة سبعة عشر إنساناً بريئاً، مما يجعل الزوج يقود رحلته عائداً إلى نابلس حيث نرى الوجه الآخر من فلسطين، ليعرف كيف ولماذا وأين تم تجنيد زوجته؟.

هناك ينتقد بشدة غسيل الأدمغة الذي تعرضت له زوجته، ويمارس وبذكاء شديد نقد العنصرية والتعصب الديني الموجود في تلك المنطقة، والذي يمارس عبر شحن ديني غير محدود من قبل رجال الدين حصراً تجاه الناس، وهذا التعصب الديني يستعرضه لنا دويري عبر الأديان الثلاثة المتصارعة في الشرق الأوسط فالشيخ المسلم الذي أقنع الزوجة بتنفيذ العملية الانتحارية، يمارس عنفاً لفظياً ونفسياً مشابهاً لذاك الذي يمارسه رجل الدين المسيحي تجاه الدكتور بطل الفيلم، وبذات الوقت نرى الاستنفار اليهودي المبالغ فيه والعدائي تجاه الجميع، دون استثناء ..

يريد دويري إذاً أن يعيد قراءة المشهد عموماً من منظور المغرر بهم، من قبل تجار الأديان وماسكي العصب الطائفي والمذهبي، ويتجلى ذاك بوضوح في ذلك المشهد العبقري، حيث يلحق طفل من نابلس بالدكتور يريد بيعه صوراً لحسن نصرالله أمين حزب الله، ولياسر عرفات الرئيس الفلسطيني، كأحد رموز المقاومة والممانعة، في تجارة بحتة ذات مغزى ربحي مباشر، ولكن المؤسف في المشهد هو أن الطفل يعرض عليه إن اشترى الصورتين أن يعطيه صورة هدية للبطلة الشهيدة ( سهام الجعفري) زوجة الدكتور التي نفذت العملية الانتحارية منذ أيام، وكأن الإنسانية تلاشت تماماً فهاهو الزوج يشاهد صور زوجته وهي تباع وتشترى وتعلق على جدران البيوت والشوارع ،دون أي وازع أو حساب لمشاعر عائلات الشهداء أو ذوي من ماتوا في تلكم العمليات.. هي تجارة إذن ،هي تجارة بحتة، وهناك من يستفيد من بيع صورة ومن يستفيد من بيع الشهيد ومن يستفيد من بيع الصفقات ومن يستفيد من بيع الوطن.. هي تجارة وليست (سهام جعفري ) هي السلعة المباعة فقط بل، الشعوب كلها هي من تباع وتشرى على أيدي، زعماء المقاومة والممانعة ممن يدفعون لإبقاء نار الصراع مشتعلة.

في هذا الفيلم يدين دويري، جميع الأطراف ويرسل بقوة رسالة سلام ،تدعو إلى احترام إنسانية المواطن الفلسطيني سواء كان في الضفة أم في أراضي ال 48. فليس هنالك من أحد يستطيع الوقوف في مواجهة آلة العنف الإسرائيلية سوى الإنسان الحر والمتحرر الذكي، القوي المستقل والناجح .بينما يتساقط الجميع تحت أثقال التعصب والتشدد .

في فيلمه الثاني ( الإهانة ) وهو الاسم الأجمل بالنسبة لي لهذا الفيلم، وهو الاسم الأجنبي للفيلم، بينما الاسم العربي هو ( القضية 23 ) وهو اسم لا معنى له مطلقاً ضمن سياق الفيلم، حيث ينطلق الفيلم، من إهانة يوجهها عامل البناء الفلسطيني الذي يعمل في شركة ترمم أبنية الحي المسيحي في بيروت، لأحد مناصري حزب القوات اللبنانية المتعصبين المعجبين شديد الإعجاب بالرئيس (بشير الجميل ) ،حيث إنه لا ينفك عن الاستماع إلى خطابات الجميل المتعلقة بالوجود الفلسطيني في لبنان.

هي إذاً زاوية أخرى من حياة الفلسطينين تلك المتعلقة بوجودهم في الدول العربية وخصوصاً لبنان حيث شكل وجودهم هناك إشكالية كبيرة وصراعاً مسلحاً ،ورويداً رويداً يتحول الصراع بين آل(جورج حنا ) ميكانسيان السيارات و(ياسر سلامة ) عامل البناء الذي يعمل بشكل غير شرعي، إلى نزاع في المحكمة حيث يتمترس خلف كل طرف المتعصبون من الطرفين، وتتطور المحاكمة حتى تنال اهتماماً وطنياً كبيراً من الناس ومن وسائل الإعلام، وهناك في المحاكمة يتم فتح تاريخ كلا الطرفين في مراجعة فنية وتاريخية لسلوك طرفي الصراع في لبنان، وفي ذلك تجاهل كبير من زياد دويري لدور باقي الأطراف في الصراع اللبناني وأهمها، حزب الله والنظام السوري وميشيل عون، ربما لعدم رغبة المخرج في توسيع فتحة فرجاره الانتقادي لعدم قدرته على هضم ما قد يقدمه الفيلم، فهاهو ( جورج حنا ) الكاره المتعصب للفلسطينيين يتكشف عن ضحية حينما كان صغيراً لمجزرة الدامور المنسية التي قامت بها قوات الصاعقة الفلسطينية المتحالفة مع الجبهة اللبنانية حيث قتل 500 شخص ونزح الآلاف ،ويتكشف ( ياسر سلامة ) عن شخص عنيف مارس العنف مسبقاً أيضاً في الأردن، حيث يستدعي المحامي المسيحي المتشدد (هو محامي سمير جعجع أيضاً ) شخصاً أردنياً مشلولاً كان ( سلامة) قد ضربه في سنة 1970 وسبب له الشلل ، في إشارة إلى الصراع الذي تم في الأردن في سنة 1970 بين الحكومة والفصائل الفلسطينية. وأنا أعتقد أن ذلك المشهد مقحم وغير ذي فائدة، إذ إن الفيلم لا يتحمل كل هذا الكم من الوثائقية السينمائية والاستعراض السياسي لتاريخ الحركة الفلسطينية، ولكن هذا حدث في الفيلم، وقامت ابنة المحامي الداهية المسيحي بالدفاع عن ( سلامة ) في إشارة إلى الجيل الجديد من المسيحيين اللبنانيين من داعمي الليبرالية واستيعاب الآخر .

في هذا الفيلم نشاهد بقوة تعاطف المخرج زياد دويري مع وجهة النظر المسيحية اللبنانية إذ إنه يفرد مشاهد طويلة للاستماع إلى مظلمية ( جورج حنا ) ومظلمية المواطن الأردني في 1970، بينما لا نشاهد أي تعليق أو أي مشهد يتحدث عن طرد الفلسطينين من البلدان العربية أو عن مجزرة تل الزعتر التي حصلت في نفس وقت مجزرة الدامور أو عن مجزرة صبرا وشاتيلا مثلاً .

هي إذاً زاوية أخرى من حياة الفلسطينين تلك المتعلقة بوجودهم في الدول العربية وخصوصاً لبنان حيث شكل وجودهم هناك إشكالية كبيرة وصراعاً مسلحاً

وفي تصريح واضح نسمع على لسان المحامي بأنه يجب على الفلسطينيين ألا يحتكروا المعاناة في هذا الشرق، ويجب عليهم أن يتوقفوا عن لعب دور الضحية في ذات الوقت الذي يمارسون فيه الظلم على أطراف أخرى ، فليسوا هم فقط من هجر ونزح وقتل وشرد ؟!!

ربما يكون هذا الكلام صحيحاً ولكن لماذا لم يتم الحديث عن العراقيين الذين نزحوا وشردوا ولم تتم الإشارة إلى السوريين الذين باتوا أكبر كارثة تهجير في التاريخ الحديث .

ما يريده دويري في فيلميه المتتاليين هو، رسالة قوية وواضحة للفلسطينيين بأنهم لم يعودوا ذلك المراهق الذي يبحث على الدوام عن التعاطف والمساندة والدعم، بل هو يدعوهم بقوة إلى المواجهة عبر تقوية ذاتهم وقدراتهم، ولكن السؤال هنا لا يجب أن يتوجه إلى الشعب الفلسطيني، بل إلى من يتاجر بقضية الشعب الفلسطيني وينصب له الشعارات وفي نفس الوقت يمنعه من العمل في لبنان، وتلك رسالة واضحة إلى حلفاء الفصائل الفلسطينية في لبنان من التقدميين الزائفين ومن الإسلاميين المقاومين المقنعين بالرجعية والدم.

نعم يجب على الفلسطيني أن يواجه القانون، ويجب عليه أن يخضع للقوانين والواجبات والحقوق في كل البلدان وفي كل المناطق، ولكن هل هو مواطن طبيعي معترف به أصلاً في تلك المناطق، سواء في الضفة الغربية أم في لبنان وسوريا، هي دعوة للتوطين يطلقها دويري في ظل عجز مطلق على تطبيق حق العودة الذي يكفل للمواطن الفلسطيني حق المواطنة الكامل وبالتالي واجب الوقوف أمام القضاء والمثول أمام الشرطة والامتثال لقوانين كل البلدان، وهذا ما يتم التصريح به علانية في الفيلمين في (الصدمة ) على لسان صديقة الدكتور حينما تقول له، (أنت تخون الثقة التي أوليناك إياها) حينما رفض إعطاء الشرطة الدلائل على الشبكة التي ورطت زوجته في العملية الانتحارية ،وفي (الإهانة ) حينما يصرح (طوني حنا ) بالسؤال (لماذا لا يمتثل الفلسطينيون لقوانين البلد ،لماذا لا يجوز انتقادهم أو اعتقالهم ويتم التعامل معهم على الدوام على أنهم مدللون). ولو أراد دويري أن يتحدث عن خطاب حقيقي لمعجب مسحور بالرئيس بشير الجميل ،لجعله يقول (لماذا لا يرحلون عنا ) مثلاً ...

إن الإشكالية التي يقدمها زياد الدويري في فيلميه الأخيرين، جريئة إلى الحد الأكثر خطورة في قضايا الشرق الأوسط المسكوت عنها، هو مخرج يعشق الوصول إلى حافة الجرف ومن ثم العودة، وهذه إحدى سمات صناع السينما التشويقية السياسية العظيمتين، فهذه الأفلام تثير الجدل بشكل كبير وهذا أمر لا شك فيه ،وهذا بالتحديد ما أراده زياد الدويري، الجدل.  

 

 

كلمات مفتاحية