في انتظار غودو.. غربةٌ متجدّدة

2019.09.11 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أظهرت سنوات الحرب التي أعقبت اندلاع الثورة السورية، كثيراً من نقاط الضعف في بنية مجتمعنا، سواءٌ على المستوى الوطني أو على المستوى المحلّي. التأكيد الدائم على مسؤوليّة النظام الحاكم عن هذا الخراب المجتمعي أمر بديهي، لكن ذلك بحدّ ذاته – على أهميّته - ليس بكافٍ. يجب البحث عن الأسباب العميقة المتجذّرة في المجتمع والتي سمحت أساساً للاستبداد بالنموّ والسيطرة.

يرى حازم صاغية في كتابه "الانهيار المديد: الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط العربي" أنّ أبناء الشرق العربي قد اصطدموا بالحداثة الآتية إليهم عبر الاستعمار، فبات كلّ تحديث وتجديد عنواناً للتغريب، وبما أنّ الشكل الطبيعي لسلوك الشعوب الخاضعة بلدانها للاحتلال، أن تقاومه وتسعى للاستقلال، فقد تشكّل الوعي الوطني والفكر التحرري استناداً إلى موروثات قديمة في مواجهة الحداثة بالذّات. وجد أبناء المنطقة أنفسهم دون تعريف لكينونتهم إلّا بالمقاربة مع الخارج، أي الآخر. لهذا السبب لم يستطيعوا أن يحددوا هويّتهم إلا كضدّ لشيء أجنبي. من هنا توقّف الزمن لديهم عند هويّة مشتتة ضائعة، لم تهتم يوماً لبناء السياسة كفاعل محرّك للاجتماع. أي أنهم – حسب صاغية – لم يهتمّوا بالسياسة كفاعل أساسي في التغيير المجتمعي، من خلالها يتمّ صياغة أسس المواطنة القائمة على الحقوق والحريّات، وكأداة حاسمة في تطوير الاقتصاد وإصلاح المؤسسات الدستورية والبنى الهيكلية والإدارية للدولة.

هكذا تغرّب الإنسان مرّتين، مرّة عندما حارب الحداثة، ومرّة عندما فقد هويّته القديمة دون أن يبني كياناً جديداً بديلاً عنها

هكذا تغرّب الإنسان مرّتين، مرّة عندما حارب الحداثة، ومرّة عندما فقد هويّته القديمة دون أن يبني كياناً جديداً بديلاً عنها. هذا بالضّبط ما أسّس للبنية التحتيّة للاستبداد، عندما اعتبرنا أنّ معركتنا هي مع  "الآخر – الخارج" والتفتنا عن معركة البناء الداخلي، نتج معنا هياكل مجتمعات وأشباه دول وبقايا أحلام. هذا هو بالضبط ما سهّل على مجتمعاتنا قبول الاستبداد القادم على ظهور الدبابات وحراب العسكر.

فتح غيابُ الحريّات الأساسية، وهشاشةُ مؤسسات الدولة وانعدامُ سيادة القانون، المجالَ واسعاً أمام نشوء الفساد وانتشاره في كل مناحي الحياة، بدءاً من إدارة مرافق الدولة وانتهاءً بإدارة العلاقات المجتمعيّة بين الأفراد وداخل الأسرة والحي والمجتمع المحلّي. لقد بات الأمر واضحاً على مستوى القيم الأخلاقيّة، فاللصُ والمُختلس بات اسمه شاطراً وذكياً، والمزاودُ الوقح المتملّق الانتهازي، بات اسمه وطنياً، والمعارض المنتقد المشكك المدافع عن الحقوق والحريات، بات اسمه خائناً.

من الطبيعي أن يقبل الآباء والأمهات الانخراط في دورة الفساد، ما دام هذا هو الطريق الوحيد المتاح لهم لتأمين أسباب معيشتهم ومعيشة أولادهم. ومن المؤكّد أن الأولاد سيقبلون هذا الأمر على أنه شيء اعتيادي، ثم سيمارسونه في دورة كاملة خلال حياتهم وستتوارثه الأجيال كسلوك اجتماعي ثمّ كقيمة أخلاقيّة.

من الآثار الخفيّة لغياب الحريّات، الجهل. جهل الإنسان بكل شيء، بدءاً من نفسه وانتهاءً بالمجتمع مروراً بالأفراد المحيطين به، والجهل يولّد الخوف. لطالما خاف الإنسان من قوى الطبيعة قبل أن يحرّره العلمُ من أسباب ذلك، ليكتشف أنّ الزلازل والبراكين والرعود ليست غضباً من الآلهة التي اخترعها في ذهنه، بل هي ظواهر طبيعيّة يمكن تفسيرها بالفيزياء الكيمياء وعلم الفلك. كذلك يخشى الناسُ بعضهم البعض عندما لا يعرفون أنفسهم جيّدا وعندما يجهلون الآخرين أيضاً. عندما لا أتمكّن من البحث عن ذاتي كفردٍ مُنتمٍ لمجتمع أوسع، وعندما لا أستطيع معرفة الجماعة التي أنتمي إليها، ولا الجماعات التي ينتمي إليها الآخرون من أبناء محيطي، سأبدأ بنسج الأساطير والخرافات عني وعنهم، وسيكون الوهم والخيال مرجعي لتقرير طبيعة العلاقة التي تربطني بهم.

فلنأخذ مثالاً العلاقة الملتبسة بين العرب والأكراد. كيف سيتمكّن الكرديّ من معرفة ذاته إن كان ممنوعاً عليه التحدّث بلغته، وممنوعاً من تسمية أولاده بأسماء كردية، وممنوعاً من ممارسة معتقداته وطقوسه، وممنوعاً من إبراز تراثه وثقافته؟ كيف سأتمكّن أنا ابن درعا – التي لا يوجد فيها سوى عائلة عربيّة يحمل أفرادها لقب الأكراد، وقد يكون مصدر التسمية أنّهم بالأصل ينتمون للقوميّة الكردية - من معرفة هذه القوميّة والتعرّف على ثقافة أبنائها؟ لو لم أدرس في الجامعة لما أتيحت لي الفرصة لذلك، وهي بالمناسبة فرصة جيّدة يمكن البناء عليها باعتبار شروطها أفضل بكثير من شروط التعارف ضمن بيئة الخدمة العسكرية ذات الأجواء القمعيّة وغير الإنسانية.

كيف سيتسنّى لي معرفة وجود فئة من الكرد لا يحملون الجنسيّة السورية إن كان ممنوعاً عليّ وعليهم الحديث في ذلك؟ سيكون من الطبيعي أن أنسج الأساطير عنهم، كما سيكون من الطبيعي أن يعتبر أغلبهم أنني مسؤول بشكل أو بآخر عن مأساتهم.

ماذا كنت أعرف أنا العربي المسلم السنّي الحوراني عن ابن طرطوس العربي العلوي، بل عن العربي الدرزي ابن السويداء المحاذية لحوران، بل عن العربي المسيحي ابن حوران ذاتها؟ هل يكفي أن أشارك في حضور أعراسهم ومناسبات الوفاة لأعرفهم، أم يجب أن يكون فيما بيننا أكثر من ذلك؟ إذا لم يكن هناك حوارات عامّة عبر النشاطات الثقافية وعبر وسائل الإعلام والمناهج الدراسية والأبحاث والكتب والمجلات، فكيف لي أن أعرف بنية هذه الفئات المجتمعيّة والدينية؟

تتمثّل مشكلتنا الكبرى حتى الآن في إحالة أسباب فشلنا على الآخر، لم نتحلَّ بعدُ بالشجاعة لنبشِ ماضينا بشكل معرفي

كيف لي أن أعرف الفرق بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذوكس، وما معنى أن يكون هناك كنائس مشرقية وأخرى غربية، ولماذا اسم هؤلاء روم وأولئك سريان؟ بالمقابل كيف لهذا المسيحي أن يعرف من أنا، ولم أنا سنيّ ولست شيعيّاً، أو علويّ ولست درزياً، إذا كان الحديث بذلك يعني إثارة النعرات الطائفية ويلاحق فاعله كمجرم أمام المحاكم العسكرية؟

إذن وببساطة، وما إن اندلعت الثورة واتّسعت مساحة الحريّات، وما إن كُسر حاجز الرعب وهدمت جدران الصمت، وما إن انتهت مرحلة المدّ الثوري الوطني، حتى ظهرت إلى الوجود تلك العصبيّات القوميّة والدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية، ثم بدأت تشيع الأساطير والخرافات والتصوّرات الغيبيّة عن الآخرين، كلّ الأخرين.

فقدان المعرفة الحقيقية المبنية على أسس صحيحة تاريخياً وعلمياً واجتماعياً، وانعدام الروح الوطنية الجامعة، وغياب الحوار المؤسس على احترام الآخر كما هو ليس كما نحبّ أن يكون، وعدم إنتاج رؤية واضحة لإمكانيات العيش المشترك بين أبناء البلد الواحد، جعل من الصعوبة بمكان التأسيس للدولة السورية الثالثة المنشودة. لقد كان التخبّط والضياع والتشتت مآل الحركات الاحتجاجية التي تحوّلت إلى ثورة ثم إلى حرب.

لو أتيح لنا إجراء دراسة شاملة، للمقارنة بين العوامل الموضوعية والذاتية وأثرها في تطوّر الوضع السوري، لتبيّن لنا حقيقة واقعنا الذي كنّا نعيشه مسبقاً. إنّ العاطفة غير كافية وحدها لقيادة التغيير السياسي المجتمعي، خاصّة إذا كانت القوى المتضررة من هذا التغيير كبيرة وقويّة وجذورها ممتدّة ومتشابكة في المجتمع.

تتمثّل مشكلتنا الكبرى حتى الآن في إحالة أسباب فشلنا على الآخر، لم نتحلَّ بعدُ بالشجاعة لنبشِ ماضينا بشكل معرفي، لم نحاول بجدّية الوصول إلى الأسباب الذاتيّة التي تمنعنا من إجراء القطع مع هذا الماضي، القطع بمعناه المعرفي الذي لا يُلغي الماضي بل ينفيه تطوّريا. لقد كانت ثورات الربيع العربي أكبر فرصة للشروع بهذا التغيير، الذي يبدأ بالتغيير السياسي، لكنّ الهزائم التي مُنيت بها جعلت الأمر أكثر صعوبة أو أخّرته على الأقل إلى أجل غير مسمّى. وبانتظار عودة "غودو" ما نزال هنا مع المنتظرين في غربتنا المتجددة.