في اليوم العالمي للديمقراطية.. الحالة السورية نموذجاً

2018.09.15 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

على الرغم من قِدَم وشيوع مفهوم (الديمقراطية) على نطاق عالمي واسع، إلّا أن التعاطي الفعلي مع هذا المصطلح ظل مرهوناً بأمرين: أولها السياقات السياسية التي حاولت توظيفه وفقاً لمساراتها. وثانيهما المحاولات الدائمة لتفكيكه وإفراغه من محتواه، ثم قبوله وتبنّيه مشوّهاً فاقداً لقيمته.

عن الحالة الأولى يمكن الحديث عن كيفية تعاطي الأنظمة الشمولية ذات التوجه الاشتراكي والمشابهة لها، مع مفهوم (الديمقراطية)، حين انتزعته من سياقه الفلسفي والثقافي الليبرالي، وحاولت توظيفه توظيفاً عكسياً لخدمة سلطتها المركزية، ووفقاً لهذا الاتجاه يصبح مصطلح (الديمقراطية الشعبية) هو الأنسب للأنظمة ذات حكم الحزب الواحد، والرئيس القائد إلى الأبد، لأن الديمقراطية الشعبية تعني الإرادة الجمعية للشعب، وتتجاوز الإرادات الفردية،

الأجهزة الأمنية والحزبية للنظام كانت تصرّ على أن تجعل من هذه الطقوس جميعها – من خلال قسر وإجبار المواطنين -  كرنفالات شعبية في كافة المدن والبلدات الشعبية، ما أدّى إلى ظهور مصطلح (أعراس الديمقراطية ).

وبما أن الحزب الواحد والرئيس القائد هما محطّ إجماع الشعب، فوجودهما واستمرارهما في السلطة لا يتناقض، بل يتطابق مع المضمون الحقيقي للديمقراطية.

كان ثمة إصرار لدى حافظ الأسد منذ انقلاب 1970 ، على إجراء استفتاء شعبي كل سبع سنوات على منصب رئاسة الجمهورية، علماً أنه كان المرشح الوحيد دوماً لهذا المنصب، وكان الإجماع الشعبي على انتخابه يصل في الغالب إلى نسبة 99 بالمئة، وذلك ضمن عملية باتت معلومة النتائج مسبقاً لدى جميع السوريين، وما يقال عن استفتاء رئيس الجمهورية ينطبق كذلك على ما يدعى بانتخابات مجلس الشعب ومجالس البلديات والنقابات المهنية ...إلخ، علماً أن الأجهزة الأمنية والحزبية للنظام كانت تصرّ على أن تجعل من هذه الطقوس جميعها – من خلال قسر وإجبار المواطنين -  كرنفالات شعبية في كافة المدن والبلدات الشعبية، ما أدّى إلى ظهور مصطلح (أعراس الديمقراطية )، والذي واظب إعلام السلطة على تعزيزه وانتشاره.

وفي الحالة الثانية، نشهد منذ بداية القرن التاسع عشر – محاولات حثيثة لتأصيل مفهوم (الديمقراطية) من خلال مقارنة بعض محتوياته بمعطيات أخرى من داخل المنظومة الفقهية الإسلامية، ووفقاً لهذا التفكير، يصبح قبول أو رفض مفهوم الديمقراطية مرهوناً باقترابه أو ابتعاده عن مفهوم (الشورى)، وذلك بحسب تعدد تفسيرات الفقهاء لهذا المفهوم.

ما يجمع بين الحالتين السابقتين ناظم فكري واحد، يتمثّل في كون (الديمقراطية) هي معطى ثقافي وفكري غربي، ونتاج سياق حضاري مغاير لواقع العرب والمسلمين، وبالتالي لا بدّ من إخضاع هذا الوافد للتفكيك والتدقيق في محتوياته، بغية تنقيته من عناصره الضارة، والاكتفاء بما هو مفيد منه وحسب.

ولعل من غير الخفيّ، أن هذه الطريقة من التعاطي مع مفهوم (الديمقراطية) كانت نتيجة دافعين مضمرين، الأول تبريري، يهدف إلى تسويغ الممارسة الاستبدادية للسلطة، وإيجاد نوع من المشروعية السياسية للحكم الفردي الشمولي. والثاني عقدي، يجسّد رفضاً مضمراً للتفاعل الفكري أو الحضاري مع أي معطى من خارج المنظومة الإيديولوجية التي ينتمي إليها الفرد.

ولو تجاوزنا طبيعة وكيفية تعاطي السلطات الحاكمة ومن هم في فلكها، إلى طبيعة وكيفية تعاطي القوى الاجتماعية الأخرى مع مفهوم الديمقراطية، ونعني بذلك الأحزاب والكيانات السورية المناهضة للسلطة، والتي من المفترض أن يكون أحد أهم أسباب تهميشها وإقصائها، بل وتذويبها هو غياب الديمقراطية، لوجدنا في خطابها وأدبياتها إلحاحاً شديداً على المطلب الديمقراطي، إلّا أن هذا الإلحاح الزاخر بنعْي غياب الديمقراطية لم يتجاوز – في معظم الأحيان – المستوى الإعلامي والورقي، وقلّ أن تجسّد في سلوك برامجي حزبي سياسي. ولفهم هذه الازدواجية بين الخطاب والسلوك، لا بدّ من الوقوف عند أمرين اثنين:

1 – إن معظم قوى وأحزاب المعارضة السورية التقليدية تنحدر من إيديولوجيات لم يكن الطرح الديمقراطي فيها طرحاً أصيلاً، (الشيوعيون – القوميون – الإسلاميون)، إذ كان التركيز الأكبر لهذه الأنماط من الإيديولوجيا على النزعة الإمبراطورية للدولة، متجاوزةً المنظومة الحقوقية للأفراد والمكوّنات الاجتماعية المختلفة والمتنوعة في المجتمعات.

2 – لعلّ معظم المحاولات التي أجرتْها بعض القوى والأحزاب في مراجعة مسارها الفكري والسياسي لرأب تصدّعاتها أو لعلاج أمراضها المزمنة، بغية إعادة إنتاج ذاتها من جديد، بما يمكّنها من الاستمرار في الحياة، أقول: معظم تلك المحاولات – على أهميتها – لم تتسمْ بالجرأة الكافية والنقد المعرفي الخالص الذي ينتشلها من إرثها ومسلماتها الماضوية إلى واقع معرفي جديد يستند إلى معطيات حياتية جديدة، وليس مُرتهَناً بثوابت الإيديولوجيا.

لعله من الصحيح، أن العديد من الشرائح اليسارية تجاوزت راهنها الإيديولوجي الشيوعي، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الذي تزامن مع ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد على أعقاب حرب الكويت 1991، وأصبح خطابها السياسي منزاحاً أكثر في استلهام الليبرالية، فباتت شعاراتها تتمحور حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وكذلك حقوق الأقليات في تقرير مصيرها، إلّا أن قسماً كبيراً من هؤلاء خذله سلوكه، حين انحاز إلى جانب نظام البراميل الأسدي في مواجهة الثورة السورية، مؤكداً بذلك على قناعاته الإيديولوجية التي توهمه بأن نظام الأسد ما يزال أحد المقاومين للمشروع الإمبريالي الغربي.

ممارسات الإسلاميين في الكيانات الرسمية للمعارضة بعد انطلاقة الثورة، وكذلك ممارساتهم حيال الواقع العسكري والإغاثي في الداخل السوري، تؤكد أن البراغماتية المفرطة الدائمة هي النقيض الدائم للثابت الأخلاقي.

ولم يكن واقع القوميين بأفضل حالاً، إذْ ما يزال قسم كبير منهم يراهن على بعث الأمة ووحدتها، ومازال راسخ الاعتقاد بأن عراقة أصله وتاريخه كفيلة بانتشاله من راهنه المقيت، متجاهلاً أن عوامل قهر الأمة وإذلالها لا يمكن أن تكون عوامل خلاصها ورقيّها بآن معاً. أما الإسلاميون فلعلّهم الأكثر إثارةً لأذهان السوريين حين كرروا في أكثر من وثيقة لهم قبولهم بتداول السلطة ومبدأ التعددية، وكان دخولهم في إعلان دمشق حدثاً مثيراً آنذاك، إلّا أن السلوك السياسي للإسلاميين سرعان ما أفصح عن فهمهم وقناعتهم للمسألة الديمقراطية، والتي لا تتجاوز (صناديق الاقتراع)، ما يعني أنها من الناحية العملية، هي فن الوصول إلى السلطة، بأية طريقة كانت، ولعلّ ممارسات الإسلاميين في الكيانات الرسمية للمعارضة بعد انطلاقة الثورة، وكذلك ممارساتهم حيال الواقع العسكري والإغاثي في الداخل السوري، تؤكد أن البراغماتية المفرطة الدائمة هي النقيض الدائم للثابت الأخلاقي.

بعد انقضاء سنوات سبع، والدخول في السنة الثامنة، وعلى الرغم من استمرار نزيف الدم السوري، إلا أن الثورة السورية مازالت تزخر بفتوحاتها المعرفية التي تتجدّد باستمرار، لتؤكد لنا أن منظومة القيم واحدة، لا تتجزأ، ذلك أن المجتمعات ذات التجارب النسبية الناجحة ديمقراطياً، على مستوى الإدارة السياسية للبلاد، قد حققت نجاحات موازية في الحفاظ على حقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، وكذلك في تحقيق مبدأ المواطنة والعدل والمساواة، وحق الاعتقاد والتعبير، وحقوق المرأة ..إلخ، فهل بمقدور القوى السورية الطامحة نحو الحرية والديمقراطية، الانفتاح الجريء والواعي نحو فهم المنظومة القيمية للديمقراطية دون اجتزاء أو تشويه؟