في النقد الذاتي: مظلومية وجهالة سهّلتا نمو الإرهاب

2019.03.09 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ارتبطت الثورة السورية بجمهور يعود في أغلبيته للطائفة السنية، ولم تؤد مساهمة بعض المنظمات والتيارات والشخصيات المعدودة من طوائف أخرى، تغييرا مهما في الطابع العام والغالب لذلك الارتباط. ولا يرجع ذلك إلى ضعف تلك المساهمة فحسب، بل إن ذلك راجع في رأيي إلى تفاعل عاملين، كان لهما دور آخر في إفشال مشروع الثورة أيضا، وهما:

أولا: المظلومية

هي مظلومية استقرت في مخيال أكثرية ذلك الجمهور، وكانت نتاجا تاريخيا تراكميا لسياسة المستبد حافظ الأسد، الذي استولى على السلطة في سوريا بانقلاب عسكري عام 1970،  وعندما قام بتصفية رفاقه في الجيش والحزب، اضطر ككل مستبد فاقد لمشروعيته الدستورية والاجتماعية إلى اللجوء إلى ما يمكن تسميته بالعصبية، وهي وفق علم اجتماع العمران الخلدوني، الضامن الاجتماعي لطبيعة نشوء الدولة واستمرارها في مجتمعاتنا، التي هي بطبيعة الأمور والوقائع مجتمعات ماقبل النهضة والحداثة، والتي لم تتوفر فيها قوانين المساواة ولا مفاهيم المواطنة. وقد بنى حافظ الأسد دولته تلك العصبية اعتمادا على عائلته وطائفته ومناطقيته، ولم يخفف منها سعيه لضم هوامش من المنتفعين والمستزلمين من خارج ذلك الإطار. وذلك بغض النظر عن استفادته أساسا من توافقات إقليمية ودولية داعمة.

وقد بنى حافظ الأسد دولته تلك العصبية اعتمادا على عائلته وطائفته ومناطقيته، ولم يخفف منها سعيه لضم هوامش من المنتفعين والمستزلمين من خارج ذلك الإطار

وتلك العصبية الاجتماعية التي استمرت طوال حكمه، وتتوجت بتوريث ابنه، كانت محركا أولا في نشوء المظلومية التي سبق ذكرها، كما عزز نموها وتعاظمها، طابع دولة الفساد الشامل التي بناها، ونهب الثروات السورية التي اشترى بها عصبيته، وسياسة الإفقار والمظالم التي عمت مختلف أرجاء سوريا عموما، وتركزت ضد جمهور مدن ومناطق ذات أغلبية سنية خصوصا.

هذه المظلومية التي كمنت في مشاعر أغلبية السوريين السنة وحساسياتهم، كان وجهها الآخر تميّزا سلطويا استفادت منه أغلبية السوريين العلويين، بغض النظر عن رأيهم، أو عن استثناءات طبعت مسارات أشخاص وتيارات ظهرت بين جمهور الفئتين. وهي مسارات تراوحت بين مواقف وخيارات وطنية رافضة للتمييز، وبين ارتباط بالسلطة وتطفل على مائدتها. الأمر الذي كثيرا ما أدى بأصحاب الاتجاه الأول إلى السجن أو النفي أوالانشقاق، بينما ما زال بعض أصحاب الاتجاه الثاني يرتعون في غيّهم، ومشاركتهم في جرائم السلطة، وأمثلة الاتجاهين وافرة!

ثانيا: تخلف ثقافي ورد فعل ماضوي

إذا لاحظنا التراجع المريع في جودة التعليم وفي الانفتاح على ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان طوال عهد نظام حافظ الأسد، مقابل تكريس ثقافة عبادة القائد وتمجيده، بدءا من الكتاب المدرسي إلى توحيد خطبة الجمعة، فضلا عن انتشار ثقافة الرداءة والاستهلاك، يمكننا أن نتفهم دور المظلومية المذكورة، في رد فعل المخيال الجمعي لجمهور السوريين من البسطاء وضعيفي التعليم، أو المتسربين منه (وأعدادهم بالمناسبة متعاظمة، وكثيرا ما تغافلت التقارير الرسمية عن إيرادها إنكارا للوقائع وتطبيلا للمنجزات كالعادة).

بكلام سيكولوجي آخر، إنه رد فعل على المظلومية باختراع مظلومية مضادة، أو هو رد على التميز السلطوي الطائفي بتميّز آخر، إذ يقوم بنسب خرافات وطبائع ومرويات لأفراد الطائفة الأخرى لم نعد نسمع عنها منذ قرون*!

 

ثالثا: حاضنة انتشار الإرهاب

لكن أهم ما في نتائج المظلومية الأولى، هو أنها في بعض الحالات والمناطق الأكثر تخلفا وهامشية في سوريا، صارت حاضنة لانتشار منظمات متشددة وإرهابية، تمثل أخطرها في النصرة وداعش.

فبفعل تفاقم عنف النظام ضد الثورة السلمية، وانفلات جيشه وشبيحته وأسلحته وقصفه الجوي، الذي لم يوفر جمهوراً متسوقاً ولا طابوراً للباحثين عن الرغيف، والذي استخدم القنابل البراميلية، وصولا إلى الأسلحة الكيماوية، ليس من المستغرب لجمهور البسطاء والعامة من فقراء السوريين والأرياف بخاصة، أن يجدوا في تلك المنظمات منقذا لهم، بخاصة مع ادعائها تمثيل السلف الصالح، وتقديم بداياتها نماذج سلوكية طهرانية. وذلك قبل أن يدفعوا الثمن المرير للتجربة مع ذلك المنقذ المتخيل، عند بروز وحشية منظماته وجمودها العقائدي، الذي وصل إلى درجة إنشاء المحاكم الشرعية، والفحص العقائدي للملابس والرموز.

ويمكن أن يمتد هذا التفسير برد الفعل ليشمل فهم سلوك بعض الثوار وأقوال معارضين بارزين، رأوا في بعض تلك المنظمات دعما للثورة ودفاعا مشروعا عن أهاليهم في مرحلة كانت من أشد مراحل حرب النظام ضد الشعب قسوة

ويمكن أن يمتد هذا التفسير برد الفعل ليشمل فهم سلوك بعض الثوار وأقوال معارضين بارزين، رأوا في بعض تلك المنظمات دعما للثورة ودفاعا مشروعا عن أهاليهم في مرحلة كانت من أشد مراحل حرب النظام ضد الشعب قسوة وعنفا. لكن الاكتفاء بهذا التفسير، كشف فقر وعي أولئك الثوار والمعارضين من جهة، كما كشف عدم قدرتهم على التمييز بين رد الفعل والرؤية الاستراتيجية، في خضم التوظيف المحلي والعالمي للإرهاب ومنظماته.

خلاصة: ردود أفعال مقابل استراتيجية

وفي الحقيقة، يجب الاعتراف أن استراتيجية النظام كانت ناضجة وواضحة في هذا المجال منذ بداية الثورة، حين اتهمت (بثينة شعبان) مستشارة الرئاسة السورية المظاهرات السلمية بالطائفية والإرهاب في حديثها التلفزيوني في 25 آذار 2011، ثم عمل النظام على الإفراج عن حوالي 700 من السجناء الإسلاميين المتشددين في سجن صيدنايا في أواخر تموز من العام نفسه، ومعظمهم ممن كانت لديه خبرات جهادية في العراق ضد أمريكا، وبمعرفة مخابرات النظام ومساعدتها. وكان بين المفرج عنهم من سيصبح لاحقا قائدا لبعض المنظمات المتشددة والإرهابية، بما يعني أن استراتيجية النظام عملت على دعم نشوء تلك المنظمات، إن لم تكن قد عملت على نشوئها أصلاً. ولا شك أن المستقبل سيكشف كثيرا من أسرار ذلك، وللمخابرات السورية باع بالغ الشهرة في ذلك المجال.

عمل النظام على الإفراج عن حوالي 700 من السجناء الإسلاميين المتشددين في سجن صيدنايا في أواخر تموز من العام نفسه، ومعظمهم ممن كانت لديه خبرات جهادية في العراق ضد أمريكا

من جهتها، كانت المعارضة بلا استراتيجية مقابلة في هذا المجال، ووقعت هي الأخرى في سياسات وردود أفعال على ارتكابات النظام وجرائمه، وفي ذلك السياق أيضا، جاء مديح معارضين بارزين لبعض تلك المنظمات وصراعها ضد النظام، كما لوحظ انتشار مديح جماهيري آخر لسلوك بعض القبضايات والزعران وأمراء الحرب، بحجة الحاجة الميدانية لهم ولنشاطهم مقابل استشراس شبيحة النظام و حلفائه وأذرعهم الأخطبوطية!.

..............................

*أنظر المقال الشامل في هذا المجال للشاعرة رشا عمران، العربي الجديد 2 شباط 2019