في النقد الذاتي الجمعي بعد الهزيمة السورية: مجتمع الأبوات 

2019.02.16 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حين ننتقل من نقد الذات الفردية إلى نقد الذات الجمعية  للسوريين عموما وللمعنيين بالثورة بدرجة أو بأخرى، بمعنى الانتقال من تحديد دور الأنا الفردية ونقدها، إلى تحديد الأدوار الجمعية ونقدها، أو نقد الـ نحن. فسنعثر على كثير مما قيل في صدد ذلك، ولم يساعد على ذلك انتشار الصحافة ووسائل التعبير التقليدية والحديثة التي شملت برامج التلفزة والفضائيات المعولمة، ولا المؤتمرات والملتقيات المتنامية، بل ساعد على ذلك أساسا انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وعولمتها المشهودة في برامج الفيس بوك والواتس أب والفيديو وغيرها، والتي ظهرت في إطارها صحافة المواطن لأول مرة في التاريخ الإنساني.

ولقد بدأ نقد الذات الجمعية بهذا المعنى، مع بداية المحاولات الأولى لتشكيل منظمة موحدة لتمثيل المعارضة والثورة السورية أو للدفاع عنها، وتركّز على المجلس الوطني السوري ورئاسته، ثم انتقل إلى نقد الائتلاف الذي ما لبث أن صار عاجزا وفاشلا هو الآخر، وتابع إلى نقد هيئتي المفاوضات الأولى والثانية، وشمل نقد مجمل المنظمات التي نشأت في إطار الثورة مدنية كانت أم عسكرية أيضا، بما في ذلك الفصائل والشخصيات التي ظهرت في مجراها، رجالا كانوا أم نساء.  

وفي هذا المجال، ظهر نقد نادرا ما كان موضوعيا ومفيدا، بل كان في الأعم والأغلب نقدا تهديميا ومهاترا، وهادفا إلى الشتم والإثارة والفضائحية، فضلا عن افتقاده الموثوقية والدقة إلى حد كبير، إلى جانب النقد الباكي والصارخ والانفعالي بأشكال مختلفة، كان بينها اللافتات المحمولة التي انتشرت صورها عبر فضاء النت والتلفزات، والتي جاء معظمها في سياق ردود الفعل المباشرة على فظائع النظام.

وبطبيعة الحال، لم يكن بعض ذلك النقد بعيدا عن إستراتيجية الحرب البربرية وأذرعها الأمنية التي شنتها عصابة النظام وما زالت، ولا عن إستراتجيات محيط إقليمي ولاعبين دوليين سارعوا للتدخل بكل وضوح، كما لم تكن بعيدة عن توجهات حزبية وضيقة كثيرا ما كانت خلف بيانات ولافتات حملت أحكاما متسرعة وإقصائية على شاكلة يمثلني ولا يمثلني!.

كل ماسبق، معروف للقاصي والداني، ويمكن تصنيفه وتحليله والاستفادة منه بدرجة أو بأخرى، لكنه سيغرقنا مرة أخرى في المستنقع الراكد لذلك النقد، الذي لا يجد العلل إلا في فساد الأشخاص وضعف أدوارهم، أو في اتساع المؤامرة على سوريا والثورة وتعظيمها، وهو أمر متعلق بمصالح الغرب والدول الكبرى والنظام العالمي ومن لفّ لفّه محليا وإقليميا، كونه وقف ويقف وراء كل كوارثنا قديما وحديثا، وليس هناك من جدوى من أي تعامل معه، وتحت أي ظرف أو قناع .

وهذا في رأيي دور فاسد وعقيم، لن نخرج منه إلا بالتساؤل والبحث عن الأسباب العميقة والكامنة خلف تكرار انهيار نهوضنا وفشل كل مشاريع ثوراتنا ومحاولات استنهاضها! .

من هنا، سأقترح تفكيكا لعاداتنا الاجتماعية المكينة، والتي أظن أنها علة هذا المعلول المستمر فينا:

أول هذه العلل: مجتمع الأبوات، أو ماسماه بعض الباحثين سابقا المجتمع البطريركي. ولن أكرر هنا ما قد أشبع بحثا لظواهر هذا المجتمع، لكنني سأضرب مثالا آخر هاما في ظني، وهو لعادة اجتماعية تكمن في أساس ضعف الجماعة الوطنية السورية بخاصة وفي المشرق العربي والخليجي بعامة، وكان لها بذلك دور خاص في تعثر الثورة السورية وفشلها الراهن!.

أكل الأبناء لآبائهم، أو تغييب اسم الأب كي يختفي خلف اسم ابنه

هذه العادة هي، ما أسميها أكل الأبناء لآبائهم، أو تغييب اسم الأب كي يختفي خلف اسم ابنه، فينادى الأب بـ(أبو فلان) ويصبح والد ابنه بالتسمية. وبالطبع يحدث ذلك مع الأم، لكن بما أن أدوار المرأة مازالت ضعيفة في بلادنا عموما، لذلك لا يظهر لقب (أم فلان) إلا نادرا، ويغلب ظهور لقب الآباء غالبا. وفي هذه الحالة فإن اسم الابن الذي يأكل اسم والده، لا يلبث أن يكون عابرا وغير مميز هو الآخر أيضا، لأنه ليس اسما خاصا به، بل إنه يكرر في الواقع اسم الجد، الذي يكرر بدوره اسم الأب أو الجد الأكبر، وهكذا دواليك حتى يتكرر اسم مؤسس العائلة، أو القبيلة، أو العشيرة، أو الطائفة في النهاية!. 

بالطبع، قد يؤدي لقب (الأبو) وظيفة احترام الصغير للكبير، أي وظيفة اللباقة واالاحترام في مخاطبة الغرباء والكبار، كما يحدث عند استخدام ألقاب الوظائف والمهن (أستاذ، دكتور، سيد، إلخ)، وذلك مماثل لاستخدام تعبير Vous في اللغة الفرنسية بدلا من Tu وكذلك Herr في الألمانية، لكن (الأبو) تؤدي في الواقع لدينا وظائف أخرى أكثر من وظيفة الاحترام واللباقة.

وذلك لايحدث مع الابن الأكبر فقط، بل مع كافة الأبناء غالبا، وفقا لتقليد، أو عادة تستقوي، كعادات كثيرة أخرى، بعبارة شاع أنها حديث ينسب للرسول الكريم من دون دقة، وهي: كنّوا أولادكم منذ الصغر. بذلك يحمل الولد اسما أو كنية تصبح  قيمة ومثلا أعلى له، كمن يلقب بـ( أبو صخر، وأبوعنتر، وأبو عيسى، وأبو حاتم، وأبو علي إلخ ). والأسماء والكنيات عبر ذلك التكرار هي غالبا ما تكون مراجع عائلية وقبائلية وطائفية في النهاية. فلكل طائفة دائرة أسماء تتكرر بينها بصورة عامة، والاستثناءات في هذا المجال لا تفيد سوى تأكيد القاعدة، إذ يمكن أن نعثر على اسم لطفل من طائفة معينة يخرج من إطار منظومة أسمائها، لكننا سرعان ما نكتشف أنه اسم أو لقب منذور كأمنية ورغبة تحققت بشكل استثنائي، فجاء مغايرا لسياق منظومة الأسماء الجمعية لكونه ذكر تأخر مجيئه بعد ولادة عدة إناث، أو بالعكس.  

وغالبا ما يمكن تمييز الهويات الطائفية من هوية الأسماء، بل يمكن إلى حد ما تمييز الهويات القبائلية والمناطقية أيضا.. وعندما يكشف الاسم المكنّى واللقب الماضوي هنا عن هوية جمعية، فهو سيكون بالضرورة دليل مجتمع أهلي كامن بكل قيمه، بينما يكون الاسم الشخصي، الاسم الحاف، دليل فرد مستقل، أو دليل مشروع مواطن ومجتمع مدني بكل قيمه، وهو جل ما نفتقده  !. 

من هنا، وإلى جانب عوامل أخرى تحتاج إلى تفكيك آخر، فقد تراجعت الصفات الفردية في الشخصيات التي برزت عبر مسيرة الثورة السورية، وتقدم الأبوات بهالة ألقابهم الاجتماعية، فضلا عمن كانت أسماؤهم مجرد أسماء حركية مستعارة، ومن كان غير معروف كليا قبل الثورة. فغابت كفاءة الفرد ومؤهلاته، لتتغلب فكرة المحاصصة الطائفية والعشائرية والمناطقية، التي مثّلها معظم أولئك الأبوات في ردود فعل من مجتمعات الأحياء والقرى، وبرز بينهم قادة فصائل ومجموعات، كانت مجتمعاتهم المحلية سريعة التقبل لأبويتهم، ورأت فيهم نماذج المنقذ وابن التراث البطل القادر على حمايتهم والدفاع عنهم، أمام انفلات عصابة النظام وشبيحته في إجرامهم غير المسبوق، وتدميرهم للمدن والقرى السورية بحسب هوياتها الطائفية والمناطقية! لكن هؤلاء الأبوات، القبضايات من جهة، لكن المفتقدين إلى أي وعي وخبرة سياسية سابقا، في ظل التصحر السياسي الذي فرضته عصابة نظام البعث على سوريا طويلا، سرعان ما وقعوا في تخبط تحت وطأة حاجة فصائلهم إلى السلاح، وحاجة مجتمعاتهم المحلية إلى ضرورات الحياة اليومية في ظل حصار النظام وحربه المنفلته بلا أية قيود. فاضطر بعضهم إلى الارتباط بالممولين، وانهار بعضهم الآخر فعادوا إلى ماسمي بحضن الوطن، فضلا عمن برز بينهم من (ضفادع) كانت عميلىة دوما للنظام وأجهزته!.