في الطريق إلى تعدّد الأقطاب

2018.08.17 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

شكّل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 مدخلاً لإعلان انتصار النظام الرأسمالي العالمي على نظام "رأسمالية الدولة" المسمى "نظاماً اشتراكياً".

هذا السقوط المدوّي قابله على الضفة الأخرى ولادة نظام "القطب الأوحد الأمريكي".

الطبقة السياسية الأمريكية فهمت الأمر أنه انتصار ينبغي أن يبقى معزّزاً بشروط القوة المختلفة (عسكرية – اقتصادية – ثقافية.. الخ) من أجل الاستمرار في مهام تحويل العالم إلى حديقة واحدة تتبع لشروط نمو الرأسمال العالمي بقيادة الولايات المتحدة والذي تتركز قوته وفعاليته لديها.

النظام الرأسمالي الأمريكي يقوم على أمرين اثنين متكاملين هما الهيمنة والربح، وكلّ إجراء اقتصادي أو سياسي في أي بقعة عالمية يمسّ هذين الذراعين (الهيمنة والربح) سيواجه بقوة الولايات المتحدة الأمريكية، سواءً كانت مواجهة عسكرية أو سياسية أو بغير ذلك من طرق المواجهة.

الطبقة السياسية الأمريكية لا تريد أن تفهم أن التشكيلات الحضارية والإمبراطورية عبر التاريخ هي تشكيلات تخضع لقوانين علم الاجتماع الذي تعبّر عنه صيرورتها. هذه القوانين تقول إن هناك زمناً لولادة التشكيلات وزمناً آخر لنموها ثم صعودها وهيمنتها ثم زمن لانحدارها وتفككها.

الأمريكيون يقاومون بشدّة كلّ تجمعات اقتصادية أو سياسية تشكّل خطراً على هيمنتهم العالمية

الأمريكيون يقاومون بشدّة كلّ تجمعات اقتصادية أو سياسية تشكّل خطراً على هيمنتهم العالمية، ولهذا فهم يستخدمون أسلحة مختلفة في مواجهة هذه " التهديدات "، ومن هذه الأسلحة المستخدمة (الحروب على أنواعها - الجاسوسية – العقوبات المختلفة وأولها الاقتصادية – الحصار بأنواعه – إثارة الاضطرابات الداخلية في البلدان المستهدفة - .... الخ).

الأمريكيون يدركون تماماً أن أيّ تغافلٍ عن أيّ وضعٍ اقتصادي أو سياسي يحدث في إحدى مناطق العالم الهامة سيهدّد لا بدّ "مصالحهم"، أي يهدّد هيمنتهم وأرباحهم. ولكن هناك وهمٌ لدى كثير من الناس يتمثل بأن الولايات المتحدة تعمل على أسلوب " النهب الاقتصادي المباشر " لاقتصادات الدول الضعيفة، هذا الفهم يندرج ضمن حقل الجهل ببنية النظام الرأسمالي وآليات عمله.

الولايات المتحدة الأمريكية تحصد الربح والمنافع من خلال عمل قوانين الرأسمالية التي تصبّ في مصلحة المركز الرئيسي المهيمن عالمياً. عمل القوانين الاقتصادية للرأسمال العالمي وحركته هي من يرفد الاقتصاد الأمريكي بالربح والهيمنة المستمرين، ولهذا نجد اليوم أن الولايات المتحدة لجأت إلى تهديد أوروبا الغربية "حليفتها التاريخية" بالعقوبات إذا ما تعاملت اقتصادياً مع إيران، فهذا التعامل الأوروبي تعتبره الولايات المتحدة إضعافاً لهيمنتها، ولكنَّ الأوروبيين رفضوا عبر بيان وقّعه وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا بتاريخ 6 أغسطس / آب الجاري العقوبات الأمريكية. هذا الأمر لن يتوقف عند هذا المستوى فالأوروبيون يريدون التحرر من عباءة الهيمنة الأمريكية، وهم مقتنعون أن الولايات المتحدة يهمها حل الاتحاد الأوربي أو الهيمنة عليه كتابع اقتصادي وسياسي لها.

فالأوروبيون بدأوا يريدون التحرر من عباءة الهيمنة الأمريكية، وهم مقتنعون أن الولايات المتحدة يهمها حل الاتحاد الأوربي أو الهيمنة عليه كتابع اقتصادي وسياسي لها

إدارة دونالد ترامب هدّدت بالعقوبات فردّ الأوربيون بـ "قانون التعطيل" من أجل الحدّ من تأثير العقوبات على الشركات الأوربية التي تريد الاستثمار في إيران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي (5 + 1) في الثامن من مايو / أيار الماضي.

وضمن هذه الرؤية الأمريكية والنهج الأمريكي تأتي زيادة نسبة رسوم الضرائب الأمريكية على صادرات تركيا من الألمنيوم والصلب إلى الولايات المتحدة كجزءٍ من حرب اقتصادية تخفي خلفها أهدافاً متعددة. فإدارة ترامب لا تريد أن يستمر الاقتصاد التركي بنسب نموه المرتفعة حتى لا يشكّل مع مرور السنوات التالية موقعاً متقدماً ضمن اقتصادات مجموعة الدول العشر الأولى على المستوى الدولي. لا سيما وأن مشروعات تركية ضخمة هي في الطريق إلى التنفيذ. الولايات المتحدة هي من يشنّ الحرب على الليرة التركية عبر أدوات إقليمية وعبر إجراءات تنتهك قانون التجارة الدولية.

الأمريكيون يهدّدون تركيا وأوربا والصين وإيران وروسيا لأنهم يشعرون بخطر النمو الاقتصادي وغير الاقتصادي على هيمنة قطبهم الأوحد عالمياً

الأمريكيون يهدّدون تركيا وأوربا والصين وإيران وروسيا لأنهم يشعرون بخطر النمو الاقتصادي وغير الاقتصادي على هيمنة قطبهم الأوحد عالمياً. هذا التهديد وما يتبعه من إجراءات أمريكية قد يُحدثُ أضراراً هنا وهناك، ولكن على المدى الاستراتيجي لن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من منع تطور اقتصادات مراكز اقتصادية دولية، أو منع تطور اقتصاد دول ذات قدرات كتركيا، وهذا يعني أن زمن ولادة الأقطاب الجديدة المتعددة يفرض نفسه عبر النمو الاقتصادي في تلك المجموعات الدولية، أو في بعض الدول كتركيا والبرازيل.

إن الطريق إلى تعدّد الأقطاب الذي يدفع إليه نمو الاقتصادات الدولية سيُضعفُ بالضرورة تدريجياً الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وبالتالي سيضعف تأثيرها على السياسة الدولية. فالاقتصاد الذي يشهد نمواً حقيقياً سيشكّل قاطرةً لنمو متعدّد الوظائف (اجتماعياً – علمياً– سياسياً – عسكرياً ... الخ)

هذه الرؤية ليست رغبة، وليست تخيُّلاً، وإنما هي قانون اجتماعي يتعلق بتطور المجتمعات، فهل سيلجأ الأتراك إلى اللعب على تناقضات الأنساق المكونة للبنية الرأسمالية الأمريكية وفق صيغتها المتناقضة في أجزاء منها مع حلفائها الأوربيين، أو مع خصومها الدوليين؟.

إذا سارت الأمور بهذا الاتجاه مع تركيا ومع قوى اقتصادية عالمية أخرى، يمكننا أن نقول أن زمن " القطب الأوحد " قد بدأ بالتفكك، وأن زمن ولادة " تعدّد الأقطاب " قد بدأ بالتشكل الحقيقي.