في الرهان على (العشائر)

2019.05.10 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

التسابق المحموم بين الأطراف المتنازعة في سوريا على حيازة ورقة (العشائر) بات واضحاً، بل غدا ظاهرة لافتة للانتباه، وبخاصة أنه جاء موازياً لاحتدام الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض السورية. فهل – حقاً – تشكل التجمعات العشائرية في سورية ورقة يمكن أن تكون وازنة في صراع المصالح في سوريا؟ وهل (العشيرة) كحاضنة بدائية، هي مؤهلة - بالفعل - للقيام بهذا الدور؟ وهل ثمة إرث للعشائر – في تاريخ سوريا الحديث – يمكن الاتكاء عليه، حول فاعليتها أو قدرتها على تغيير مسار أي حراك سياسي أو اجتماعي؟

في شهر كانون الثاني من العام الجاري قامت سلطات الأسد بعقد لقاء لما سمّي بوجهاء العشائر والرموز الاجتماعية، فجمعت ما يقارب خمسة آلاف شخص، بحسب رواية إعلام النظام، في بلدة أثريا التابعة لمنطقة السلمية، على بعد 100 كم من مدينة حماة. علماً أن الذي قام بالتواصل والتنسيق مع الأشخاص الذين حضروا الاجتماع هو المدعو (حسام حمشو) رجل الأعمال المشمول بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على عدد من الشخصيات الاقتصادية في سوريا. وكالعادة، انتهى اللقاء بتلاوة البيان النهائي المُعد قبل الاجتماع، والذي يؤكد ولاء المجتمعين وعشائرهم لنظام الأسد، وإصرارهم على المضي خلف سياساته الحكيمة وفقاً لبيان النظام، وقد كافأ النظام المجتمعين بإطلاق ستة وثمانين معتقلاً من سجونه.

وفي خطوة مماثلة، بتاريخ 3 – 5 – 2019، قام المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية (مسد) بدعوة ما يقارب ثمانية آلاف شخص – وفقاً لإعلام قسد – للاجتماع في بلدة (عين عيسى) الواقعة

أوجه التماثل بين اللقاءين – أثريا – عين عيسى -  تكاد تكون متطابقة، فكلا الطرفين الداعيين – النظام – قسد – أراد أن يوحي لخصومه أن سكان المناطق التي تقع تحت سيطرته هم مؤيدون له

شرق الفرات، وانتهى الاجتماع في اليوم ذاته، وكما كان اجتماع أثريا، فقد تمت تلاوة البيان النهائي – المُعد مسبقاً – والذي يؤكد حرص المجتمعين على تقديم الشكر لقوات سوريا الديمقراطية التي حررت المنطقة من تنظيم الدولة، وكذلك حرص المجتمعين على التنديد بالخطر التركي على قوات قسد.

أوجه التماثل بين اللقاءين – أثريا – عين عيسى -  تكاد تكون متطابقة، فكلا الطرفين الداعيين – النظام – قسد – أراد أن يوحي لخصومه أن سكان المناطق التي تقع تحت سيطرته هم مؤيدون له، وبالتالي فإنه يستطيع الزعم أمام المجتمع الدولي بأنه يملك حاضنة شعبية تؤيد سياساته، ولئن كان نظام الأسد يتطلع إلى منطقة شرق الفرات، باعتبارها منجم الاقتصاد السوري، ولا يرى في القوات الأمريكية وحلفائها سوى قوات محتلة لتلك المنطقة، وبالتالي يحاول التأكيد لجميع الأطراف بأحقيته في استعادة السيطرة على المناطق الشرقية من سوريا، لاستثمارها في تحسين اقتصاده المتهالك، فما الذي يجعل حزب الاتحاد الديمقراطي pyd، وهو الذي يسيطر على كافة المدن والبلدات في تلك المنطقة، يقدم على حشد هذه الجموع من سكان المنطقة، لإخراج مسرحية لم تعد تنطلي مخرجاتها على أحد؟

أولاً – لم يعد بمقدور (قسد) تجاهل موجة الاحتجاجات الشعبية في جميع تلك المناطق، والتي تتفاوت في حجمها وسقف مطالبها، إلّا أنها جميعها تؤكد على وجود حالية أمنية مزرية، كثرت فيها حالات القتل المجهول والاختطاف و حالات السلب والاعتداء على ممتلكات المواطنين، ما أدى إلى تبلور موقف شعبي شديد الاحتقان ضدّ قوى الأمر الواقع، وخاصة في محافظتي دير الزور والرقة، ومن هنا يأتي حرص قوات قسد على احتواء هذا الاحتقان من خلال استرضاء رؤوس وشيوخ بعض العشائر، سواء بالوعود، أو ببعض العطاءات العينية البسيطة، تماماً كما فعلت قسد حين أخلت سراح عشرات من المعتقلين لديها بتهمة داعش، وقامت بتقديمهم كعربون حسن نية أو بناء ثقة لبعض الوجوه الاجتماعية.

ثانياً: منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قراره بسحب القوات الأمريكية من شرق الفرات، بادرت جميع الأطراف المتنازعة – الروس والأتراك والنظام وقسد – إلى تهيئة بيئة اجتماعية خاصة لكل طرف، تعلن ولاءها له، وتدّعي أنها هي الحاضنة الشعبية الحقيقية لتلك المناطق، وفي ظل استمرار المفاوضات بين هذه الأطراف، دون معرفة إلى أين ستؤول السيطرة في تلك المناطق، فإن الاستمرار في العمل على كسب هذه الحاضنة سيبقى جارياً.

المحاولات المستمرة لاستثمار الحالة العشائرية في الصراع على مناطق شرق الفرات، لم يكن من جانب نظام الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي فحسب، بل واكبتها محاولات من جانب تركيا التي أقامت اللقاء الأول لمؤتمر العشائر في مدينة إستانبول في كانون أول من العام 2018، ثم أعقبه لقاء ثان في بلدة سجو، التابعة لمدينة أعزاز السورية بتاريخ 24 – 12 – 2018، وقد أفضى هذا اللقاء الأخير إلى تشكيل (المجلس الأعلى للعشائر في سوريا)، وتدفع الحكومة التركية حالياً بهذا المجلس ليكون له تمثيل رسمي في الائتلاف وهيئة التفاوض.

بالعودة إلى السؤال الرئيسي عن جدوى الحراك العشائري في سوريا، وما مدى التعويل عليه في أي حراك وطني أو سياسي؟

ما هو مؤكّد أن دور العشيرة – كحاضنة اجتماعية – منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، وحتى عام 1970، كان في شلل تام، ولم يشهد تاريخ سوريا في تلك الفترة أي حراك عشائري كان له تأثير فعلي في الحياة السياسية، ولعل مردّ ذلك هو تحكّم القوى العسكرية في مقدرات البلاد، وتعاقب الانقلابات العسكرية التي ظلت وحدها تقرر مصير مآلات نظام الحكم، بالتحالف مع بعض القوى السياسية والطبقات الاجتماعية، دون أن يكون أي دور فاعل ومؤثر للمكونات العشائرية. وما بعد عام 1970 وانقضاض حافظ الأسد على السلطة، فإن حال (العشيرة) لا يختلف كثيراً عن حال الكثير من الكيانات الاجتماعية، حيث عمدت سلطة الأسد إلى تخريب (البنية القيمية) للعشيرة، وتحوّلت من كيان اجتماعي تحكمه نواظم ومعايير قيمية موروثة مستمدّة من التراث القيمي الذي يعزز التكافل والتضامن ويسهم في ضبط العلاقات الاجتماعية بين الأفراد بما ينسجم مع الأعراف والتقاليد، إلى كيان بشري يُعنى بتقديم الولاء للحاكم وفقاً للخطاب السلطوي المفروض على الجميع، بل لقد تحولت العشيرة في كثير من الأحيان إلى أداة تنفيذية تستخدمها السلطة لقمع أي حراك سياسي معاد لها، (يمكن الاستشهاد في هذا السياق، بمبادرة قام بها ذياب الماشي النائب الدائم في مجلس الشعب، حين قام بتسليح المئات من أفراد عشيرته واستخدمتهم السلطة كميليشيا في مواجهة الإخوان المسلمين في بداية الثمانينيات من القرن الفائت. ثم تكررت هذه الممارسات لدى عشائر أخرى في بداية ثورة آذار 2011، حين أقدمت بعض العشائر على تشكيل مجموعات مسلحة للانقضاض على الثوار المتظاهرين والتربّص بهم أمام المساجد، حين خروجهم إلى المظاهرات). ووفقاً لذلك، لم تعد نواظم السيادة أو القيادة في القبيلة تخضع لمعايير قيمية يحوزها من هم أهلٌ لها، بل باتت محصورة بمن هم أقدر على إثبات ولائهم للنظام الحاكم.

وفي سياق هذا التحوّل الذي أحدثته السلطة الأسدية في بنية ودور العشيرة، قامت العديد من العشائر السورية

إن وقوع الجغرافية السورية تحت تقاسم النفوذ الدولي، جعل العشيرة الواحدة تخضع لأكثر من سلطة أمر واقع، وذلك بحسب تموضع كل قسم من أفرادها

بإرسال وفودها إلى (جميل الأسد) شقيق حافظ الأسد، حين قام بتشكيل (جمعية الإمام المرتضى) في بداية ثمانينيات القرن الماضي، لتؤكّد له ولاءها، بل إن بعضاً منها لم يكتف بإبداء الولاء السياسي فحسب، بل أكّد انتماء عشيرته إلى الطائفة العلوية.

إن وقوع الجغرافية السورية تحت تقاسم النفوذ الدولي، جعل العشيرة الواحدة تخضع لأكثر من سلطة أمر واقع، وذلك بحسب تموضع كل قسم من أفرادها، وولاء كل قسم منها سيكون – حتماً – للسلطة صاحبة النفوذ، الأمر الذي جعل مرجعيات العشيرة مشتتة لا تخضع لصوت زعيم أو شيخ واحد، وهذا ما يسهم بتفكيكها، وتحويلها إلى مجموعات مبعثرة غير وازنة، من السهل استثمارها وتوظيفها من قبل السلطات الحاكمة.

بقي القول: إن الارتداد إلى الحواضن الاجتماعية البدائية، ومحاولة استثمارها في عملية صراع المصالح الإقليمية في سوريا من جانب الأطراف الخارجية المتنازعة، لا يبدو أمراً شديد الغرابة، نظراً لغياب أحزاب سياسية فاعلة في البلاد، وغياب كيانات وطنية قادرة على الإمساك بطرف من المبادرة، في موازاة ارتدادات مماثلة – وأشد خطورة – نشهدها في كيانات وشخصيات سياسية سورية، هجرتْ خطابها الحداثي لمفهوم الدولة، وراحت تحفر في مداميك العشيرة، بحثاً عن آفاق مصلحية راهنة.

 يبدو أن حدود المأساة السورية تجاوزت تخوم الأرض والدم، بل تحاول التجذّر بالوعي، الذي هو الحامل الجوهري للتغيير والثورة، بل هو شرطه الجوهري.