في أسباب الفشل المؤسساتي للمعارضة

2018.08.05 | 01:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قد تبدو للوهلة الأولى، وكما روّج كثر، بأن الثورة، أو الثورات، تتناقض مع فكرة المؤسسة، بمعناها الشائع، فالثورة تحتمل الكثير من الفوضى، بينما تقوم المؤسسة على التنظيم العامودي والأفقي، وقد يكون هذا الكلام صحيحاً نسبياً، فيما يتعلق بالثورات السريعة والخاطفة، والتي تنهزم أو تنتصر، في وقت قصير، فلا تكون هناك ثمة فرصة للتفكير في بناء المؤسسات، حيث تكون الحاجة إلى بناء المؤسسات، المستندة إلى شرعية الثورة وفكرها، مسألة لاحقة على نجاح الثورة، على الأقل في مسعاها السياسي، أي إسقاط نظام سياسي، وقدوم نخبة سياسية جديدة إلى الحكم، وهي النخبة التي كانت في مراكز قيادة الثورة.

وهنا، سنحاول استبدال مصطلح الثورة بمصطلح المعارضة، لضرورات تتعلق بنقطتين جوهريتين من وجهة نظرنا، تتمثل الأولى في عدم قدرة الثورة السورية على إسقاط النظام الحاكم، بل وتحول الثورة، في مسارها، إلى حرب بين قوى متعددة، داخلية وخارجية، والنقطة الثانية هي أن مصطلح المعارضة، لرسوخه كنقيض للنظام السياسي الحاكم، وقدرة هذا المصطلح على احتواء فكرة المؤسسة، وبالتالي فإن ما سنناقشه هو سياق لا ينفصل عن بعضه البعض، في قراءة أسباب الفشل المؤسساتي على جبهة المعارضة، ليس فقط الفشل في البنى السياسية، بل ما يتعداها أيضاً إلى بنى أخرى، مثل الإعلام، والثقافة، والفكر، بالإضافة إلى الفشل في بناء مؤسسات الرعاية المالية واللوجستية.

إن أحد أسباب الفشل الكبرى لمؤسسات المعارضة هي محاولة احتواء التنوع الموجود في قوى المعارضة، لكن من دون وجود ضوابط وآليات تحكم ذلك التنوع

إن أحد أسباب الفشل الكبرى لمؤسسات المعارضة هي محاولة احتواء التنوع الموجود في قوى المعارضة، لكن من دون وجود ضوابط وآليات تحكم ذلك التنوع، بل وتعترف اعترافاً أصيلاً بالحاجة إليه، فمعظم المؤسسات الكبرى للمعارضة قامت ضمن إطار تلفيقي، يعتمد على التوافق السياسي والمصلحي المباشر، فضمّت في صفوفها قوى تتناقض جذرياً على المستوى المؤسّساتي، من حيث المرجعية الفكرية والسياسية، وقد حدث هذا الأمر، نتيجة أسباب عدّة، من بينها الحاجة إلى بناء إطار وطني، يؤطر قوى المعارضة، ومن الناحية النظرية، يمكن فهم هذه الأمر الضروري، لكن من الناحية العملية، كان هذا الأمر نفسه، سبباً في التناقضات اللاحقة، التي كان من شأنها أن تعرقل عمل المؤسسات الوليدة.

 وكنموذج واضح عن مؤسسات المعارضة، يمكن تناول تجربة "المجلس الوطني"، ومن ثم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، حيث اجتمعت في المؤسستين المذكورتين قوى إسلامية وعلمانية وعروبية وكردية ويسارية، بالإضافة إلى المستقلين، كما أن التوصيفات السابقة لا تلغي المسافة بين فئات محسوبة على تيار ما، لكنها تتباين فيما بينها، ففي التيار الإسلامي نفسه، ثمة تنوع بين الإخوان المسلمين والسلفيين و"الحداثيين"، وينطبق الأمر ذاته على القوى العلمانية، أو العروبية، ولم تتمكن المؤسستين المذكورتين من إيجاد صيغ وطنية جامعة، من شأنها تجاوز الخلافات والانقسامات بين تياراتها المتنوعة.

لقد تحكّمت المرجعية الفكرية، والقراءة السياسية، في توجهات القوى السياسية للمعارضة، ما أحدث خرقاً فاضحاً للطبيعة الوطنية المفترض أن تقوم عليها أي مؤسسة معارضة، في وضع يشبه الوضع السوري، في تعقيداته الكثيرة، بل إن التعقيدات التي طرأت على الحالة السورية، كشفت إلى أي حد أسهمت التوجهات الفكرية والسياسية في بناء التحالفات، والتي أدّت إلى عرقلة الفعل المؤسساتي، وإحداث حالة من الانقسام بين قوى المعارضة الموجودة تحت سقف مؤسسة واحدة، ومن بين الأمثلة الواضحة لتلك الحالة من الانقسام، اعتماد كل قوة سياسية على سند إقليمي، وهو ما سمح للقوى الإقليمية أن تهيمن من وراء الكواليس تارة، أو بشكل فاضح تارة أخرى، على قرارات بعض أطراف المعارضة، وتحوّلت الخلافات الإقليمية إلى خلافات بين قوى ورموز المعارضة نفسها، ويمكن التحقق من هذا المثال، من خلال محاضر اجتماعات مؤسسات المعارضة، خصوصاً فيما يتعلق بالعمليات الانتخابية، أو تحديد الهيئات واللجان.

أسهمت التوجهات الفكرية والسياسية في بناء التحالفات، والتي أدّت إلى عرقلة الفعل المؤسساتي، وإحداث حالة من الانقسام بين قوى المعارضة

لم تدرك معظم قوى المعارضة أن العمل المؤسساتي هو عمل يتأسس على البعد القانوني (العقد المؤسس للشراكة)، فالمؤسسة تنهض على أهداف واضحة، وهيكليات واضحة، خصوصاً فيما يتعلق بعمليات التخطيط والتنفيذ، ومستوى الاستقلالية، والكفاءة، بالإضافة إلى الرقابة الفعالة، وعمليات التقييم، التي ترافق سير التنفيذ، وتسمح بتجاوز التحديات الطارئة، كما أن توصيف المؤسسة بأنها معارضة، فهذا يحمّلها مسؤولية أن تكون النقيض الأخلاقي والوطني لمؤسسات النظام الحاكم، وبالتالي يجعلها أكثر صرامة في معاييرها، وابتعادها عن المحسوبية والولاء.

المؤسسات الإعلامية والثقافية التي تأسست كبدائل عن مؤسسات النظام الحاكم لم تكن أفضل حالاً من المؤسسات السياسية، فهي كانت إحدى انعكاسات الأزمة السياسية بين قوى المعارضة نفسها، وعاشت، وما تزال، أزمات في تكوينها، وفي بناها القانونية، وانتقال حمى المحسوبية والولاء والفساد إلى الكثير من مفاصلها، بالإضافة إلى تبنيها أشكالاً متناقضة من الخطاب، بل وسقوطها في محطات عديدة في مطب الشعبوية، وإخفاء الحقائق عن الجمهور، وهو ما يتناقض مع الطبيعة المهنية المفترضة للمؤسسات الإعلامية والثقافية، والمطالبة بقدر كبير من الموضوعية، من أجل كسب ثقة الجمهور، وبناء سمعة جيدة لمسيرتها المهنية.

ولئن كان أحد أوجه التناقض بين المعارضة والنظام السياسي السوري قد تأسس تاريخياً على نقد المعارضة لذلك النظام في تعيين شخصيات تفتقد إلى الكفاءة على رأس مؤسسات الدولة، فإن مؤسسات المعارضة لم تستطع تجنّب هذا المطب، وقد تمّ تعيين شخصيات كثيرة في مناصب تنفيذية حساسة، من دون امتلاكها الكفاءات والخبرات الضرورية للعمل المناط بها، واستبعاد الكثير من الكفاءات الوطنية الحقيقية.

قد يكون من الصعب في هذه العجالة تحديد مختلف أسباب الفشل المؤسساتي للمعارضة، لكن من الواجب البدء في عملية تقصي أسباب ذلك الفشل، بطريقة بحثية ومنهجية، من أجل الانتقال إلى مسار مختلف، على الرغم مما يكتنف عملية الانتقال من مصاعب وتحديات، ربما تجعلها مستحيلة.