في أحقيّة السؤال

2018.07.25 | 02:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لقد كان السؤال على مدى التاريخ البشري مفتاح المعرفة، وكلّما كان السؤال أعقد كانت الدهشة أكبر، فالمعرفة هي كل ما يحتاجه الإنسان وكل ما لا يستغني عنه، المعرفة محيطٌ بلا شواطئ وفضاء بلا حدود، هي شعلة النار المقدّسة التي سرقها بروميثيوس من جبل الأولمب وقدّمها هدية إلى أبناء أثينا ليستمرّوا في الحياة، هي زاد الإنسان الذي يسعى إلى التعلّم أبداً، و كلٌّ يسعى إليها بطريقته الخاصّة ولأسبابه المختلفة.

أمّا التساؤل فقد كان طريق العلماء والفلاسفة والمفكرين والحالمين والأنبياء، إنه التفكّر في هذا الوجود وفي هذا الكون، ولطالما كانت نتائج التساؤلات نظريّات وأفكاراً وعقائدَ غيرّت مسار التاريخ البشري أو بالأحرى وضعته على سكّة التطور الطبيعي للتقدّم الإنساني.

السؤال والتساؤل طريقان للعمل على تلبية الحاجة و البدء بخطوات نظرية لسدّ الفجوة بين الممكن المتوفّر والمرغوب المأمول، هما المحرّك النظري للفعل وللتغيير العمليّين.

تمرّ الشعوب كما الأفرادُ بأوقات عصيبة تجتاحها فيها الأسئلة المصيريّة والتساؤلات الوجودية، وغالباً ما تكون هذه الأوقات بعد انكسارات كبرى أو هزائم مريرة أو عند منعطفات تاريخيّة حادّة، وهي لا تكون عادةً بعد الانتصارات ولا في مراحل الرخاء والاستقرار، والسبب واضح وبسيط، حيث يتجسّد بضياع الهويّة في أوقات الأزمات وعدم الشعور بالحاجة إليها في أوقات الاستقرار.

لِمَ ستسألُ الأمّة الماليزيّة أو الألمانيّة أو الشعب الفرنسي أو الياباني اليوم عن الهوية أو القومية أو عن أسس الدولة أو عن العقد الاجتماعي؟ لن يكون للسؤال من معنى ولا جدوى ولا حاجة أساساً، لأنه على الأغلب أمرٌ ناجزُ يتمّ البناء عليه منذ عقود طويلة من الاستقرار. بينما نجد شعوباً عريقة في التاريخ موغلة في القِدّم كالشعب المصري واليمني والعراقي والسوري تسأل نفسها اليوم هذه الأسئلة الوجوديّة الهويّاتية بحثاً عن قواسم مشتركة تجمع أبناءها أو في محاولة لبناء أسس تقيم عليها الحياة المشتركة أو لوضع معايير محدّدة للمواطنة أو للعقد الاجتماعي الذي يجمع بين الناس الذين يؤلفون بمجموعهم هذه الشعوب!

تمثّل هذه الأسئلة بداية الطريق إلى معرفة الذات الجمعيّة لأفراد شعب ما أو لمكوناته التي تجمعها بُنى ما قبل وطنيّة مثل البنى القومية والدينية والطائفية والمذهبية والعشائرية والقَبَليّة، وعند بدء التوافق على خطوط عريضة للإجابة عليها يكون الطريق إلى المستقبل قد بدأ فعلاً.

حالة ضياع الهويّة وفقدان الأمل في إيجادها تبعث في نفس الأفراد وفي وعي الشعوب على التطرّف والعنصرية والانغلاق والتشبّث بماضٍ اندثر وتخيّله أو تصوّره على أنّه الحلّ ومنفذ الخلاص، وفي أحسن الأحوال يكون الهروب إلى الحلول الفردية والتخلّي عن الفعل الجماعي والمجتمعي أسهل الطرق للحفاظ على الذات الفردية وتلبية احتياجاتها اللازمة لاستمرار النوع.

فعلى سبيل المثال، وفي لبنان الذي يمكن أخذه كنموذج هائل من التناقضات، عندما يتخلّى المواطن عن حقّه في العيش بدولة تمثّل كل أبنائها، وعندما يسكت على طغيان فكر الطائفة ويكرّسه من خلال مشاركته بالعمليّة الانتخابيّة التي تعيد إنتاج هذا الفكر الطائفي وإنتاج المحاصصة الطائفية ذاتها، فإنه سيحصد بلا شك هذا المحصول الوفير من التسلّط  والفساد والخراب العميم. في هذا البلد الصغير حالة فريدة من تلاحم الفساد بالطائفية والعنصرية مع كل ما هو قبيح وغير إنساني، ولا يمكن بكلّ تأكيد انتظار التغيير من الأحزاب المهترئة لأن ذلك يخالف طبيعتها الطائفية أو المذهبيّة التي نشأت من هذا المستنقع العفن والتي تغذّيه بدورها في جدليّة لا تنتهي من الاستدامة القاتلة. قد يكون من الممكن لقوى المجتمع المدني الحيّة البعيدة نوعاً ما عن هذه القذارة المركّبة سياسياً على شكل دولة أن تقوم بهذا الدور، أو لكي نكون أكثر تواضعاً البدء به على الأقلّ ، لكنّ الأمر غير مرتبط بلبنان وحده، فما لم تتغيّر الظروف الموضوعية لاستمراره كبلد يمثّل مسرح التناقضات الإقليمية كلها ويمثّل ساحة الصراع الخفي تارة والمعلن تارات أخرى، وما لم تسقط أنظمة الاستبداد الشمولية في المنطقة وما لم يسقط نظام الملالي في طهران فلن ينعم لبنان ولا المنطقة كلّها بالسلام والأمان والحرية ولن يحلم أفراد شعبه بالعيش الكريم كبشر متساويين. هذا ما يدفع الكثير من اللبنانيين إلى الهجرة بحثاً عن ملاذات آمنة للخلاص الفردي، فنجدهم منتشرين في جميع أصقاع العالم ومنذ عشرات السنين هرباً من هذا البلد الطارد لأبنائه من كثرة الأسئلة المصيرية التي لم تجد لها أجوبة حقيقية تبعث على الاستقرار المجتمعي والسياسي.

على عكس الثورات الملوّنة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية منذ بداية الألفيّة الثالثة والتي انتقلت من جورجيا عام 2003 بعد أن أطاحت سلميّاً بالرئيس إدوارد شيفارنادزه إلى أوكرانيا عام 2004 حيث أتت سلميّاً أيضاً برئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيّاً يوشينكو فقرغيزيا عام 2005 حيثُ انتهت بعزل الرئيس عسكر أكاييف ، والتي مرّت أغلبها بسلام نسبيّاً وأزهرت دولاً وأنظمة أمسكت بداية طريق التحوّل الديمقراطي، تفجّرت بصخبٍ شديد أسئلة الهويّة وأسئلة الوجود هذه في ربيع طهران عام 2009 ثم في موجات الربيع العربي بدءا من نهاية عام 2010. لكنّ الإجابات عليها كانت أشدّ هولاً وبأقصى درجات العنف وجاءت مدمّرة كزلازل وبراكين سحقت وأحرقت أسس الحياة ذاتها.

والآن تعود الأسئلة والتساؤلات ذاتها إلى الواجهة في أحقيّة لا يمكن نكرانها ولا إيقافها كأحقيّة أسئلة يوسف لأبيه في قصيدة محمود درويش"أنا يوسف يا أبي". فهل جَنَتْ هذه الشعوبُ على أحدٍ حين قالت إنها رأت أحد عشر كوكباً تتلألأ بالحريّة والشمسَ والقمرَ يندهان عليها لأخذها بيديها؟

هل كان من الخطأ أن يفكّر أبناءُ هذه المنطقة وبناتها خارج الصندوق أو التابوت المنحوت من حجرٍ مزج في تركيبته بين خلائط التخلّف وشَرَه رأس المال الفاجر وشهوة السلطة المطلقة وارتباطُ المصالح مع الخارج على حساب الداخل؟

هل كان الثمن الباهظ المدفوع أرواحاً بريئة ودماً زكيّاً ومُدناً عامرة وقرى وادعةً  مُكافئاً لقِيمِ الحريّة والكرامة والعدالة المنشودة، أم إنّ هذا السؤال خاطئ من أساسه ولا يجب طرحه؟

لن تكون ولا يمكن أن تكون الإجابة عن هكذا أسئلة إجابات حسابيّة تأخذ فضاء العلوم منهجاً لها، بل هي أكثر تعقيداً من تجريد الرياضيات ذاتها، إنها إجابات مكتوبة بأرواح مئات آلاف البشر وبما لا يُحصى أو يُعدّ من عذابات وآلام الملايين منهم.

الإجابات بحدّ ذاتها ضرورة بالمعنى الفلسفي لأنها تتضمّن قيمتها في ذاتها وتحمل أبعادها الإنسانيّة التي لا غنى عنها كمقياس لتحديد معناها وجدواها، فلا يمكن تصوّر الحياة البشرية بلا فكرة الحريّة ذاتها حتى ولو كان الإنسان المحدد في بقعة معيّنة من الأرض في فترة ما من الزمن محروماً منها، وذات الشيء ينطبق على الكرامة والعدل وتكافؤ الفرص والمساواة وغيرها من حقوق البشر الطبيعيّة التي باتت تلهج بها ألسنة المدافعين عن حقوق الإنسان وتنبري لتنظيمها قواعد القانون الدولي.

لم يستفق الشعب العراقي من سكرة زوال الديكتاتور حتى وجد نفسه في ورطة حكم اللصوص من أحزاب الفساد الطائفية التي عبرت على ظهر الإبرامز الأمريكية لتسرق أحلام أبنائه البسيطة بالعيش في دولة المواطنة، فمن حكم تسلّطي عدل بين الناس في توزيع الظلم والقهر إلى حكم مأجور مرتهن للخارج أفحش في نهب ثروات العراق وتمزيق مجتمعه طولاً وعرضاً وتدمير بنيته وأسس استمراره. وكلّما أمسك الناس بداية الخيط للتغيير كلّما فُتحت عليهم جحور أفاعي التطرّف وأُطلقت عليهم غيلانُ الإرهاب المعمّم بالسواد. واليوم يعيد التاريخ نفسه، فبعد أن دمّرت قوى الحكم مدن الأنبار وشرّدت أهلها بحجّة داعش هاهي تحاول اتّباع ذات الأسلوب في البصرة مع أهل الجنوب الذين لم يلمسوا من نفط العراق وثرواته سوى لهيب الغلاء ونار العَوَزِ والفقر.

من هنا تكون الأسئلة والتساؤلات حاضرة دوماً حتى ولو تأخّرت الإجابات وحتى لو كانت إجاباتٍ خاطئة، لن يستمر الحال أبداً على هذا المنوال خطوة إلى الأمام وعشر خطوات إلى الوراء، بل سيأتي اليوم الذي تكون فيه استحقاقات التغيير والانتقال من عصر العبودية إلى عصر المواطنة أمراً ناجزاً لأنه يشكل ضرورة حتميّة لا مجرّد أحلام وأمنيات. لم يعد العالم يتحمّل أكثر هذا الانحطاط، ولا بدّ للإنسانيّة من التقدم خطوة أخرى على طريق التحضّر.