فندق سوريا الأسد الفخم

2018.07.07 | 23:46 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ليس خبراً عابراً استئناف شركة إماراتية أعمال بناء فندق ضخم في دمشق، بعد توقف طوال سنوات الحرب. ليس هذا خبراً منقطعاً عن سلسلة أخبار تتصل بالحدود السورية ومعابرها مع الأردن ولبنان والعراق، وإعادة ترميم الطرق الدولية وإصلاحها من وإلى العاصمة دمشق. النظام السوري يسعى بإلحاح إلى استثمار الضرورات الاقتصادية لتثبيت سلطته وتطبيع استمراريته.

الدولة الأردنية التي عانت مؤخراً من موجة احتجاجات واسعة النطاق بسبب الأزمة المعيشية، تطمح إلى حل سريع لمسألة النازحين السوريين إلى أراضيها، وقبل ذلك ترغب بشدة بإعادة فتح الحدود والحركة التجارية مع سوريا بما يخفف فعلياً من أزمتها. التوافق الإقليمي الأخير حول معبر نصيب يتسق مع هذا الهدف. فجزء مهم من اقتصاد الأردن يقوم على الحركة التجارية البرية التي يتوسطها بين أوروبا وتركيا شمالاً والخليج جنوباً مروراً بسوريا حتماً.

زيارة وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي إلى موسكو، الأسبوع الماضي، كان هدفها تأمين فتح معبر نصيب و"عودة عشرات الآلاف من النازحين السوريين إلى جنوب سوريا (بوصفها) أولوية قصوى للمملكة". 

في لبنان، وعلى مثال الأردن، ثمة لهاث محموم من طبقة رجال الأعمال والمصارف، وأغلبهم رجال سياسة وسلطة في الوقت نفسه، نحو إعادة العلاقات مع النظام السوري من بوابة الفوائد الاقتصادية الهائلة. وجهاء مدينة طرابلس وممثلوها السياسيين يروّجون لازدهار المدينة وتحسن مداخيلها عبر الدور المأمول لمرفئها في إمدادات مشاريع الإعمار وحركة الاستيراد والتصدير من وإلى سوريا. ثمة جهد يُبذل من أجل نسيان كل العداوة القديمة والراسخة بين أهل المدينة والنظام السوري باسم الأرباح الكبيرة التي ستجنيها المدينة. أما في بيروت، فتنهار تدريجياً المواقف المبدئية المعادية للنظام السوري بسبب تلك "الكعكة" الاقتصادية. يقال إن اجتماعاً ضم زعيماً سياسياً مع رجال أعمال طالبوه بتسهيل خطوات التطبيع مع حكومة بشار الأسد، قال فيه ذاك الزعيم: "..لكنهم قتلوا أبي"، فأجابه رجل أعمال: "رحم الله أباك.. لكن الأمر لا يتوقف على أبيك فقط، لقد قتل آباءنا جميعاً تقريباً"، قالها على معنى "إنه الاقتصاد يا غبي". حتى المنازعة القائمة لتشكيل الحكومة الجديدة، تدخل فيها حسابات الاستحواذ على وزارات معنية بالصفقات الكبرى في المشاريع المستقبلية لسوريا.

التواطؤ الواضح بين جميع المكونات السياسية في لبنان مع "حزب الله" لتسليمه ملف النازحين السوريين، يندرج أيضاً باستخدام هذا الملف لإعادة فتح قنوات التواصل بين لبنان الرسمي والدولة السورية، بما في ذلك التنسيق الأمني، بواسطة هذا الحزب. إن بوادر التطبيع تظهر جلية في لهجة الإعلام اللبناني تجاه الحدث السوري. لقد عادت وكالة "سانا" لتكون مصدراً معتمداً في صياغة الأخبار المنشورة!

المصارف اللبنانية التي تستحوذ على رساميل سورية ضخمة تقارب 25 مليار دولار أميركي، تم تهريبها من سوريا طوال السنوات الماضية وإيداعها في البنوك الخاصة، لا تريد فقط إبقاءها في موجوداتها بل أيضاً تولي تشغيلها وإدارتها في الاستثمارات داخل سوريا، أي أن تعود شريكاً أساسياً في المنظومة المالية السورية.

لبنان الذي خسر أدواراً تاريخية، منذ سنوات الحرب، ثم حاول ابتكارها وتجديدها الرئيس رفيق الحريري بمشروعه السياسي الاقتصادي، يبحث اليوم عن وظيفة إقليمية وعن دور حيوي يخرجه من تأزمه العميق. لهذا السبب تتجه الطبقة السياسية الحالية، المرتبطة جوهرياً بنخبة رجال الأعمال والمال، نحو ترتيب شراكة نفعية كبيرة مع سوريا بغض النظر عن كل الضغائن والعداوات الدموية مع نظام بشار الأسد.

الذهاب بهذا الاتجاه لا يلقى على الأرجح أي اعتراض خليجي، بل ربما ثمة تشجيع له، فالصمت علامة الرضى. وربما تكون "الخطوات" اللبنانية ممهدة ووسيطة لإعادة وصل ما انقطع بين دول الخليج ونظام الأسد.

مشروع الفندق الإماراتي المستأنفة ورشته في قلب العاصمة السورية، هو إشارة سياسية واضحة، وليست غريبة تماماً عن سياق السلوك العربي في السنتين الأخيرتين، من الجزائر إلى مصر والعراق مروراً بأغلب الدول الخليجية. ولا ننسى أن دولة الإمارات أيضاً استقبلت واستضافت الكثير من رموز النظام السوري وعائلاته.. وخصوصاً أمواله وثروات حاشيته. وكل هذا بالتزامن مع "الانسحاب" السعودي من القضية السورية إلى حد الصمت والتغاضي والتجاهل.

إلى جانب الشق الاقتصادي البالغ الأهمية، هناك استراتيجية سياسية عربية باتت راجحة، ستؤدي إلى إعادة تعويم النظام السوري. فحوى هذه الاستراتيجية، التي تكرست عبر التفاهمات الخبيثة بين معظم الأنظمة العربية، هي أن "الربيع العربي" جريمة ارتكبتها الشعوب العربية "المخدوعة"، ويتحمل مسؤولية هذه الخدعة "الإخوان المسلمون" وباقي أطياف الإسلام السياسي، ومن الضروري اختزال كل ما حدث في رواية رسمية تعيد كتابة التاريخ وفق مقولة إن هذه الثورات حركات "داعشية" تكفيرية ظلامية يقودها إرهابيون، وإن الأنظمة حاربت وتحارب الإرهاب وبيئاته الحاضنة.

إذاً، باسم "محاربة الإرهاب" يمكن تبرير كل الفظاعات وكل المآسي والأهوال.. وتحت شعار "الشعوب المخدوعة" تتم مسامحة الأنظمة في عنفها وبطشها ووحشيتها، وبالتالي يصبح التطبيع مع نظام إجرامي كنظام الأسد سهلاً ومقبولاً، بقدر ما يمكن الترويج لهذه الأنظمة العربية كشريكة لدول العالم المتحضر في حربها على الإرهاب.

بمعنى آخر، لم يُعاقب الشعب السوري على تمرده فقط، بل سيُعاقب مرة ثانية بحرمانه من حقوقه كضحية، وسيُعاقب مرة ثالثة بوصفه مذنباً ومخدوعاً وإرهابياً، وسيعاقب مرة رابعة بضمان بقاء النظام الأسدي مسلطاً على مستقبله. وهذا ينطبق إلى حد بعيد على كل الشعوب العربية التي خرجت ذات يوم تطالب بإسقاط الطغاة.

وفي عالم يتسيده فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، أي في أشد الأزمنة التي تتباعد فيها الأخلاق والسياسة، ليس مزعجاً لأحد أن تكون سوريا الأسد عبارة عن فندق خمس نجوم تقطنه عصابة إجرامية، ومشيداً فوق مقبرة نصف مليون قتيل.