فندق أم وطن....؟!

2019.01.18 | 23:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 بهزيمة ساحقة لدول المحور وعلى رأسها ألمانيا, حيث تم تقسيمها إلى غربية وشرقية ودمار البنية التحتية الصناعية والمدنية بشكل شبه كامل لمدنها الكبرى وسرقة مالم يدمر من ثرواتها من قبل السوفييت على وجه الخصوص, وفقد حوالي 8 ملايين ألماني (غالبيتهم من الرجال) حياتهم  أي مايعادل 12% من تعداد سكانها ولكن رغم هذا استطاعت أن تنهض من الركام وأن تصحح المسار من خلال التمايز عن النهج النازي, وأن تلعب المرأة دورا"مؤثرا"ببناء المستقبل .

ولكن كيف نجحت ألمانيا ؟بينما لاتزال العديد من الدول العربية تراوح مكانها, فتتكرر دورة الأزمات وتزداد تعقيدا" وينتقل المجتمع من انتكاسة لأخرى ؟ قد يقول البعض أن ألمانيا كانت بلدا" صناعيا" ومزدهرا" قبل الحرب ولايصح مقارنتها مع الدول العربية, رغم أن هذا قد يبدو صحيحا",  إلا أن الخسائر المادية والبشرية والدمار الكلي لأهم حواضرها, والأخطر من ذلك محاولة تدمير روح الإنسان من خلال الاعتداء الممنهج الذي ارتكبه الجيش السوفييتي على وجه الخصوص, حيث تعرضت 1.4 مليون امرأة للاغتصاب من قبل جنوده ضمن المناطق التي سيطر عليها من ألمانيا بعد الهزيمة, وفي العديد من الحالات كانت الجريمة تنفذ أمام أبناء أو آباء وأمهات الضحية لسحق شخصية الفرد وكسر إرادة المجتمع و"إجهاض" أي فرصة للنهوض من جديد , كل ما سبق يجعل الحصيلة التي خرجت بها ألمانيا,بعد الحرب, صفرية إن لم نقل سالبة.

ولكن كيف نجحت ألمانيا ؟بينما لاتزال العديد من الدول العربية تراوح مكانها, فتتكرر دورة الأزمات وتزداد تعقيدا" وينتقل المجتمع من انتكاسة لأخرى ؟

هل يعود السبب إلى الشعب وثقافته ؟ أم إلى النخب التي تملك الرؤية و إمكانية التأثير الإيجابي و تستطيع فهم طبيعة المجتمع ومشكلاته وتقترح الحلول العملية ؟ أم المسؤولية تقع على الدولة بصفتها الهيئة الوحيدة التي تحتكر العنف وصاحبة السيادة العليا التي بموجبها تفرض القوانين والتشريعات وتخصص الموارد المالية اللازمة  لتنفيذ  الأهداف الكبرى.

من الأسباب الرئيسة :التناقض بين أهداف السلطة, المسيطرة على مؤسسات الدولة, وأهداف الشعب هذا التناقض ينجم عن موقع الشعب بالنسبة للدولة, هل تراه مصدر شرعيتها أم مجرد رعية ومصدر للخدمات والأموال اللازمة لاستمرار أجهزة الدولة وضمان الحاكم للسيطرة الاقتصادية ,من خلال وكلاء, بعد أن ضمن السيطرة السياسية , دون أن تكون تنمية المجتمع وازدهاره إلا هدفا" معلنا" لاحقيقة قائمة,  فدولة العسكر , الشكل الأكثر شيوعا" بالدول العربية, تؤسس من قبل نخبة انقلابية تختزل الدولة ومؤسساتها السيادية والأمنية بقلة من الموثوقين ,لانتمائهم الطائفي في الحالة السورية, لا تنظر إلى الشعب على أنه كامل المكونات المجتمعية بل ترى الجيش الأمني (الضامن لأمن السلطة الحاكمة لا الوطن ) المرجح الذي يجعل استمرارها بالسلطة ممكنا", وبالتالي تراعي مصالحه على حساب  الشعب الذي يتحول إلى رعية تابعة ,هذا التحول لا يؤدي فقط إلى دونية نظرة الدولة إلى الشعب بل يغير من سمات المجتمع وقيمه على المدى الطويل, وذلك نتيجة لتهميش أفراده وحجبهم عن المشاركة الفاعلة بصنع القرارات التي تخصه من جهة ومن جهة أخرى بسبب الصبغة الأمنية التي تنتشر في كل مؤسسات الدولة مما يفرض الرعب والترهيب لضبط المجتمع, فتُنتقص كرامة المواطن ويُبتز ماليا" ومعنويا" في كل نقاط التواصل (الإجبارية) بينه وبين مؤسسات الدولة, فيعم الفساد الذي يؤثر سلبا" على البنى التحتية والعمران والبيئة, والأخطر من ذلك  يضعف منظومة قيم المجتمع والتي تنعكس على المستقبل, وهنا يكون على مفترق طرق فإما أن يميل إلى الرفض بأشكال متعددة أعلاها الثورة أو يستكين إلى الواقع المفروض ويتماهى مع الدونية المفروضة عليه لدرجة أنه يشارك بصناعة صنمه "الزعيم الرمز"  فيراه أساس الوطن وسبب وجوده !!

مع ضمان السيطرة  تنعكس الآية فترفع المحاسبة وقبلها الرقابة عن مؤسسات الدولة  وتطبق على الرعية خوفا" من يقظة محتملة و تُشوه مؤشرات النجاح ,  فمثلا" لاتعتبر جودة التعليم المتدنية مؤشرا" على فشل الدولة, طالما يتم بث دعاية النظام الحاكم في أذهان الجيل الجديد ليضمن السيطرة على مستقبل الشعب بعد أن سيطر على حاضره.

و لاتعتبر خسارة الحرب بما تشمله من خسائر بالأرواح واحتلال أرض الوطن أمرا" يتطلب المحاسبة, طالما الطبقة الحاكمة لم تتضرر مباشرة ,كما حصل في هزيمة 1967 وغيرها حيث خرجت الأبواق الإعلامية تزعم أن هدف إسرائيل إسقاط القيادة  وطالما أنها لم تسقط فالهزيمة لم تحل !!! وتناسوا أن أسرائيل بعد الحرب ازدادت مساحتها ثلاثة  أضعاف ونصف عما كانت قبل الحرب,  وليستمر بعد الهزيمة والذل غير المسبوقين  عبد الناصر كزعيم "تاريخي" لمصر  وليسيطر وزير الدفاع في ذلك الوقت حافظ الأسد على الدولة السورية بكافة مفاصلها بدلا" أن يحاكم بسبب أوامره بالانسحاب من هضبة الجولان الحصينة دون قتال, وأصدر البيان رقم 66 الذي أذاعه راديو دمشق , والذي جعل أحد المحللين الإسرائيلين يصرح متهكما " "نحن تعودنا دائما أن تذيع بعض الإذاعات العربية بلاغات عن انتصارات (لجيوشها) لم تحصل، البيان هذه المرة كان عن هزيمة لم تحصل بعد!!!".

و لاتعتبر خسارة الحرب بما تشمله من خسائر بالأرواح واحتلال أرض الوطن أمرا" يتطلب المحاسبة, طالما الطبقة الحاكمة لم تتضرر مباشرة

ولكن ماذا عن دور النخب في معارضة الدولة العسكرية ؟  في حال شهدت الدولة حكما" مدنيا" قبل الحكم العسكري (الانقلابي)  فإن النخب تكون موجودة من خلال أحزاب أو قادة رأي و مفكرين مستقلين هؤلاء بعمومهم يظهرون المعارضة , إلا أن هذا لايطول قبل الاصطدام مع "توحش" الدولة الأمنية ليصفى أو يُسجن من لايقبل الرضوخ أو يتخلى عن مبادئه ليلتحق بآلة دعاية السلطة مقابل مكاسب فئوية أوشخصية  تافهة.

بالنسبة للشعب فإن وحدته تنجم بالدرجة الأولى عن رغبة مكوناته المجتمعية بالعيش المشترك فوجود مجموعات اجتماعية تعيش في إقليم واحد لايعني أنها شعب واحد بل قد تكون منقسمة,مع ملاحظة أن بعض العوامل (التقليدية) الني يفترض أنها  عامل توحيد  كالدين قد تكون صحيحة شكلا"فقط, فالدعاوى المتبادلة بعدم الانتماء إلى الإسلام بين الشيعة والسنة ,على سبيل المثال, تطورت إلى أعمال عنف دموية في دول عديدة منها العراق كمثال واضح على أن ترجمة وحدة الدين هي وحدة الطائفة  لا أكثر, لتتمزق الدولة ومؤسساتها كفريسة بين الطوائف المتناحرة .

وفي حال كانت المكونات المجتمعية غير متقاطعة بالمصلحة السياسية فإنها تعيش بعزلة وفرقة, وإن تشاركت المدن والقرى والبنى التحتية, يضمر كل فريق الحقد بسبب مظلومية حقيقية أو متخيلة تنتظر الفرصة المناسبة للانفجار بشكل عنف طبقي أو طائفي أو قبلي. أما إذا كانت تؤمن بمصلحة سياسية واحدة, فيمكن لهذه المجموعات أن تنتقل إلى مجتمع المواطنة ,في حال تحقق شرطي الدولة والنخب, ولهذا نجد الدولة الاستبدادية تسعى دوما" إلى التعامل مع الشعب على أنه رعايا من  مكونات متناقضة, وبالتالي لايحق لهم طرح أي قضايا بحجم الوطن بل فقط ماينسجم مع حجم مناطقهم أوطائفتهم أو عشيرتهم, وتكون استجابة الحاكم بصفة منحة وتفضل وليس استحقاقا" واجبا", ومن الأمثلة الكثيرة لقاء تم في بداية الثورة السورية , نيسان 2011, بين وفد من المعضمية وداريا لدراسة الدعوة التي وجهها النظام بذلك الوقت متمثلا" بقائد الفرقة الرابعة العقيد ماهر الأسد إلى ممثلين عن المدينتين للقائه كل مدينة على حدة , فكانت نصيحة أحد المتحدثين ممن حضر لقاء النظام مع وفد المعضمية  لثوار داريا (في حال قرروا الذهاب ) ألايطرحوا إلا المشاكل ذات الطابع الخدمي وألا يطرحوا مطالب وطنية تخص شرعية وآليات الحكم الواجب تطبيقها في سوريا المستقبل, لأن الرد سيكون قاسيا" من قبل النظام.  أي أن الأسد يرى سوريا فندقا" هو مالكه والسوريين نزلاء لارابطة بينهم, لا مواطنين لهم الحق بالمشاركة في تقرير مستقبل سوريا الوطن .

إن النجاح بالتغيير الإيجابي يتطلب تحقق شروط متكاملة تخص : الشعب, النخب, الدولة  وغيابها  يعرقل إمكانية التغيير. فعدم وحدة المصلحة السياسية للشعب, أوفقدان النخب لتميزها الفكري وانتمائها لغير شعبها,  أو امتلاك السلطة الحاكمة ,المسيطرة على أجهزة الدولة, لأهداف خاصة تناقض أهداف الشعب, سيؤدي إلى " دولة فاشلة" في تنمية مجتمعها وتحقيق العدالة بين أفرادها ودون أي دور إيجابي في محيطها الإقليمي.