فان دام سفيراً أمام بشار الأسد

2019.09.02 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حين صدر كتاب «تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا» عام 2017، احتل بسرعة المكانة التي يستحقها بالنظر إلى الباع الطويل لمؤلفه، الأكاديمي والديبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام، في الشأن السوري.

وعند نشر ترجمته العربية، في العام اللاحق، دارت ردود الفعل عليه حول أمرين؛ أولهما نفور جمهور الثورة من وصف «الحرب الأهلية» الوارد في عنوانه، وثانيهما أن الكتاب، الذي يخصص جزءاً وافراً من صفحاته لانتقاد المعارضة وداعميها ويدعو إلى التعامل «بواقعية» مع نظام الأسد، صار حجة وازنة في يد فريق من الذين يُعرفون بجماعة «مو قلنالكن؟!» الذين طوّبتهم «مجموعة الجمهورية» مؤخراً باسم «الألمنقلكميون».

وهؤلاء، كما هو معروف، مثقفون متفرغون لمعارضة المعارضة وتتبع أخطائها، الحقيقية أو المضخمة أو المختلقة، مستندين إلى تحذيرات يقولون إنهم أطلقوها كان من شأنها، في رأيهم، تجنيب البلاد مصيرها الحالي.

هؤلاء عارفون فوق العادة، حكماء زيوسيون، لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة، في شؤون الثورة والمعارضة والتسليح والأسلمة والتطييف والحرب والدعم الخارجي، إلا وأحصوها. همّهم أن أحداً لم يستمع إليهم عندما أبدوا مخاوفهم من كذا ونبهوا إلى كيت، ولذلك يبيحون لأنفسهم اليوم موقعاً أشبه بالشماتة والتشفي بالجميع.

لكنهم ليسوا موضوعنا، بل استخدامهم الكتاب سنداً يعزز موقفهم، مما لا ينسجم معه. إذ إن انتقاد هؤلاء للثورة والمعارضة ارتبط بمجموعة من المقولات وبرؤية للواقع السوري وحال نظامه تبرر دعاويهم.

ومنها، مثلاً، الإيمان بنجاعة السلمية لإسقاط النظام، أو القول بأنه يختزن مشروعاً إصلاحياً كان ينبغي منحه الفرصة لتثميره، أو الزعم أن الملمح الطائفي قليل الأهمية في تكوينه وولاءاته مما يحيله إلى بضع مئات من أفراد الطغمة المستفيدة المختلطة، أو القول بأنه اختطف الطائفة العلوية التي تبعته حين لم تستطع المعارضة أن تقدم لها خطاباً يغريها بالثورة... إلخ.

أزعم أن هذه المستندات التحليلية -الخاطئة على العموم- ضرورية للموقف الذي وصفتُه، وإلا لما وقع فيها كتّاب يتمتعون، أحياناً، بالذكاء ووضوح الرؤية في مسائل أخرى.

أما فان دام فلا يتورط في أمثال هذه الأفكار، بحكم معرفته الوثيقة بسوريا وخلوّه من «الغرض»، مما يجعله سنداً غريباً لهؤلاء المنتقدين الذين أغفلوا معظم تحليلاته ومعلوماته وتمسكوا ببعض عناوينه. لكن المرء، دون أي خطل في التحليل، لن يستطيع أن يدعو إلى حوار مجدٍ مع النظام. وهو ما يرتد على الكتاب الذي يبدو، بذلك، مزيجاً غير متجانس من المعطيات الجذرية مع الواقعية السياسية غير المدعومة بأدلة!

لتجلية صورة هذا التناقض اخترت عرض الكتاب بافتراض أن الديبلوماسي الهولندي كُلَّف بتمثيل بلده، أو المجتمع الدولي، لدى بشار الأسد، وأنه بدأ مهمته هذه بجلسة يقدّم له فيها تحليله ورؤيته للواقع السوري الآن. استخدمت في هذا الحديث المزعوم عبارات فان دام كما وردت في الكتاب، بترتيبها والربط بينها ببعض الكلمات فقط، مع التأكيد على مسؤوليتي عن هذا النص الذي تصورت أنه سيسير على النحو التالي:

 

«اسمحوا لي بداية، سيدي الرئيس، أن أهديكم نسخة من كتابي الأخير عن بلدكم وأن أستعرض أفكاره.

لقد زرت سوريا للمرة الأولى سنة 1964، ومنذ ذلك الوقت كانت تحت حكم الدكتاتورية البعثية. وأنا أفضّل أن أبدأ حديثي من هنا لأنني أرى أن الثورة عليكم كانت نتيجة عقود من التطورات في ظل حكم البعث.

كانت أول هذه التطورات عندما استولى العساكر البعثيون على السلطة عام 1963. وأهمية هذه النقطة في الخلفيات المحددة لهؤلاء، ذلك أن معظمهم، كما تعلمون، يتحدرون من الأقليات الإسلامية في الريف السوري، وخاصة العلويين والدروز والإسماعيليين.

ويمكن اعتبار الانقلاب الذي قام به والدكم الراحل حافظ الأسد في 1970 نقطة التحول الثانية. فمنذ ذلك التاريخ كانت الفئة العسكرية الوحيدة ذات الجبروت، التي يتحكم فيها علويون، هي من سيطر على المشهد على مدى نحو نصف قرن، وحتى اليوم.

أما النقطة الثالثة فكانت صدام النظام مع فرع متطرف من الإخوان المسلمين خلال سنوات 1976-1982، انتهى بحمام الدم الشهير في حماة، حيث لم يتم اجتثاث تنظيم الإخوان المسلمين بطريقة وحشية فحسب، بل أيضاً الكثير من الأهالي. وكانت تلك نقطة تحول لا رجعة عنها في التاريخ السوري في ما يتعلق بالطائفية.

من المحتم على أي تحرك لإحداث تغيير في النظام أن يؤدي إلى سفك دم هائل

منذ ذلك الوقت، في رأيي، لم يعد من الممكن تفادي الحرب الدامية في سوريا. وقد توقعت في كتابي الأول «الصراع على السلطة في سوريا» أنه من المحتم على أي تحرك لإحداث تغيير في النظام أن يؤدي إلى سفك دم هائل، وهذا ما رأيناه خلال السنوات السابقة. إذ شكلت مجازر حماة نموذجاً للقمع الذي سيتكرر خلال الثورة، إنما ليس في مدينة واحدة بل في كل نواحي البلاد.

فقد تصور نظامكم أنه يستطيع سحق الثورة بالقوة، كما كان قد نجح في مناسبات سابقة. غير أن الوضع هذه المرّة كان مختلفاً، فقد انكسر جدار الخوف والصمت بتأثير الربيع العربي وثارت شرائح كبرى من السوريين بأعداد هائلة عليكم.

لقد تعامل نظام البعث، في مناسبات عديدة، بوحشية مع أي تهديدات طالته، أكانت وهمية أم حقيقية: سُجن معارضوه وعُذّبوا وقُتلوا أو اغتيلوا. ولنقل بصراحة إنه لم يكن واقعياً أن دكتاتورية غاشمة لها هذه الصفات والسلوك التي لنظامكم، ستتخلى عن السلطة طوعياً نتيجة مظاهرات سلمية كالتي بدأت مع الثورة!

كما كان متوقعاً، استخدمتم كل الوسائل للبقاء في السلطة، بما فيها التحالف مع أحزاب ليست قريبة إيديولوجياً من حزب البعث، وحتى مع أحزاب عدوة. إنها الغاية التي تبرر الوسيلة.

كانت الحرب، التي تلت الثورة، حتمية في الواقع. وتحتم على الصدام العنيف بين نظامكم والمعارضة أن يأخذ بعداً طائفياً، نظراً إلى العدد غير المتكافئ لأفراد الأقلية العلوية في الجيش والمؤسسات القمعية الأخرى.

هنا أتى التدخل الخارجي، وهو أمر أعرفه بشكل جيد. فقد شغلت منصب المبعوث الهولندي الخاص لسوريا، وكانت لي اتصالات مكثفة مع معظم الأطراف الضالعة في النزاع. وإنني أستغرب كيف أمكن هذا العدد الكبير جداً من السياسيين الأجانب أن يتوقعوا بسذاجة أنكم ستتنحون طوعاً من منصبكم كرئيس بعد كل الفظاعات التي قيل إن نظامكم ارتكبها ضد المتظاهرين السلميين ولاحقاً ضد جماعات المعارضة المسلحة؟ لقد أرادوا منكم أن توقعوا طوعاً على قرار إعدامكم لأنكم فقدتم شرعيتكم في نظرهم! إن هذا، حتى لو استند إلى نظرتهم للعدالة والحق، لن يحصل بالتأكيد.

تمثل البديل في هزيمة نظامكم عسكرياً، الأمر الذي لن تعود بعده حاجة إلى المحادثات، لكن الديمقراطيات الغربية المعنية رفضت التدخل العسكري المباشر.

دعوني أوضح مقصدي، سيدي الرئيس. أنا أقف بقوة ضد التدخلات العسكرية، لأن هناك أمثلة كثيرة على أنها تؤدي إلى كارثة. لكن البديل الذي اختارته حكومات غربية وعربية، بالتدخل غير المباشر ضدكم، لم يكن أقل كارثية، عندما سلحت الجماعات السورية المعارضة ومولتها ودعمتها سياسياً لكن دون أن تزودها بما يكفي من السلاح أو توفر لها ما يكفي من التنسيق لعملياتها العسكرية. كان ذلك كافياً فقط لجعل نظامكم يترنح لكنه غير كاف للإطاحة بكم. وكانت لهذا التدخل العسكري غير المباشر نتائج كارثية شبيهة بما كان يمكن أن تكون عليه نتائج التدخل العسكري المباشر: وأبرزها نحو نصف مليون قتيل، وملايين اللاجئين، ودولة في حالة خراب، ووطن مدمر إلى حد كبير، كما ترون.

ورغم ذلك لا يزال الكثير من السياسيين الغربيين والعرب يواصلون مقاربة النزاع في ما يُفترض أنه أسمى المعايير الأخلاقية، أي في ما يجب أن تكون عليه سوريا من مثالية ومشاعر متصوّرة للعدالة التي لن تطبق بسبب الافتقار إلى القوة العسكرية الكافية أو الإرادة السياسية اللازمة، لا ما هي عليه سوريا فعلاً أو ما صارت إليه نتيجة الحرب الدامية. كما طالبتْ معارضتكم، كنوع من الشرط المسبق، بضرورة إقصائكم، أنتم وأتباع النظام الذين تلطخت أيديهم بالدماء، عن أداء أي دور في مستقبل سوريا، وبإحالتكم إلى المحكمة الدولية. قد تبدو هذه المطالب مفهومة تماماً، لكنها غير واقعية.

ماذا كانت النتيجة؟ لقد أخفقت الحرب على نظامكم في تحقيق الأهداف المعلنة للمعارضة: مجتمع سوري جديد تعددي علماني ديمقراطي مدني. وهي، كما يبدو، تسير في اتجاه واضح سينتهي بخسارة المعارضة.

وأنا أفهم أنه كلما كان نظامكم في الجانب الظافر ضعُف استعداده للتفاوض مع أحزاب معارضة لم يملك النية أبداً في مشاركتها في أي سلطة فعلية أصلاً. إذ لم يحصل أي نوع من أنواع التسوية بينكم وبين والمعارضة داخل البلاد، وأتفهم أن تستهجنوا فكرة تقاسم السلطة مع الذين حاولوا الإطاحة بكم من خارجها وتقديم أفراد نظامكم للعدالة الدولية.

أعرف جيداً الدكتاتورية التي تقودونها وعدم استعدادها للإصلاح وعدم قدرتها عليه، وأنها بذلك أدت إلى تفجّر سوريا، لكني أعتقد أن الحوار مفتاح كل حل! وأعلم أن ما كان يمكن، ربما، تحقيقه من خلال الحوار معكم في المراحل الأولى للثورة بات أكثر صعوبة الآن، وأن اتخاذ إجراءات إصلاحية جذرية بات أصعب بكثير، إن لم يكن مستحيلاً، لكن ذلك لا يبرر عدم المحاولة!

أشكركم، سيدي الرئيس، على الإصغاء لأفكاري... وأتطلع بحرارة للسماع منكم».