عن نجومٍ يظنّون الإنسانيةَ دعايةً لهم

2019.03.25 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لن يُقبَل التصريح، الذي أدلى به السينمائي الأميركي بن ستيلر (1965) أثناء زيارته لبنان (مطلع مارس/ آذار 2019)، بصفته سفيرًا للنوايا الحسنة للمفوضية العليا للاجئين، التابعة للأمم المتحدة. فهو، في تجواله في مخيمات لاجئين سوريين في البقاع وطرابلس والكورة، يكتشف حجم البؤس الذي يُعانيه هؤلاء في عيشٍ يوميّ، لن يكون مُناقضًا لواقعٍ مُزرٍ (والوصف أخفّ من حقيقة الواقع وبشاعته)، ما يدفعه إلى دعوة المجتمع الدولي إلى "الاهتمام العاجل" بهم، وإلى "الإفراج عن الأموال الدولية الخاصّة بهم وبالمجتمعات المُضيفة لهم". لكنه يبدو غير مُدركٍ، بقولٍ مكمِّل لهذا، وقائع البلد (لبنان) وناسه إزاء العلاقة المرتبكة بين لبنانيين وسوريين، وهي علاقة ـ بارتباكاتها المختلفة، من دون تناسي الإيجابيّ القليل أيضًا فيها ـ تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في 13 أبريل/ نيسان 1975.

فما يقوله بن ستيلر، بعد التصريح أو بإكماله إياه، يكشف تناقضَ ثنائيةٍ متعلّقةٍ به: "حُسن النوايا" غير كافٍ في مسائل مرتكزة على تداخل مُعقَّد وحسّاس بين السياسيّ والإنسانيّ والتربويّ والاجتماعيّ والمسلكيّ والثقافي، في مقابل واقع لبناني متشنّج بعنصريته القاتلة إزاء اللاجئين أنفسهم، وهذا ما لن يعرفه بن ستيلر، أو أي نجم غربيّ آخر، إنْ يترفّع عن الغوص في الوحول اللبنانية، أو عن طرح الأسئلة المناسبة على الناس المناسبين، وهذا صعبٌ في بلدٍ منقسم ومشرذم. يقول ستيلر: "على العالم أن يقف إلى جانب البلاد المُضيفة كلبنان، الذي يستضيف أكبر عدد منهم (قياسًا إلى بقية الدول العربية والغربيّة)، ما يدلّ على الإنسانية والتضامن بشكل ملحوظ"، مُنهيًا كلامه بالقول إنه "يجب علينا أن نبذل قُصارى جهدنا كي ندعمه".

يأتي هذا كلّه بعد سرده جزءًا من "فعلته" اللبنانية: "التقيتُ لاجئين سوريين يطمحون إلى العودة إلى بلدهم. بعضهم بدأ العودة، لكن أولئك الباقين هنا يحتاجون إلى مساعدة عادلة كي لا يغرقوا في مزيدٍ من الفقر". هو، بقوله هذا، يبدو غير منتبهٍ وغير مُدركٍ وغير عارفٍ بخطر عودة كثيرين إلى بلدهم، والخطر نابع من تصرّفات السلطات السورية إزاءهم. كما يُشير إلى أن هؤلاء جميعهم يعيشون ظروفًا "غير معقولة"، ويُقيمون "في ملاجئ محفوفة بالمخاطر، على أراضٍ موحلة بسبب الظروف القاسية للشتاء"، ومُتوقّفًا عند لقائه أطفالاً غير ذاهبين إلى المدرسة، لانشغالهم في أعمالٍ مفروضة عليهم، "كي يُساعدوا عائلاتهم في تغطية نفقات العيش".

لكن، كيف يُعقَل لناطقٍ بكلامٍ كهذا ألاّ ينتبه إلى انعدام الإنسانية والتضامن في بلدٍ غير مُقدِّمٍ حدًّا أدنى من شروط عيشٍ سوي وصحّي، لا لأبنائه أولاً، ولا للاجئين يأتون إليه في محاولة نفادٍ من موتٍ مُحقَّق

لكن، كيف يُعقَل لناطقٍ بكلامٍ كهذا ألاّ ينتبه إلى انعدام الإنسانية والتضامن في بلدٍ غير مُقدِّمٍ حدًّا أدنى من شروط عيشٍ سوي وصحّي، لا لأبنائه أولاً، ولا للاجئين يأتون إليه في محاولة نفادٍ من موتٍ مُحقَّق ثانيًا؟ كيف يُمكن لمن يرى بؤسّا وشقاءً، كالذي يصفه هو في تصريحه هذا، ألاّ يسأل عن سبب البؤس والشقاء، بدلاً من قولٍ يناقض ما يتفوّه به هو، عندما يستخدم مفردتي "إنسانية" و"تضامن" في كلامه عن لبنان السلطة؟ أين هي الإنسانية وأين هو التضامن، واللاجئون السوريون يعيشون ظروفًا "غير معقولة"، و"يُقيمون في ملاجئ محفوفة بالمخاطر، وعلى أراضٍ موحلة بسبب الظروف القاسية للشتاء"، كقوله هو نفسه؟

كلام بن ستيلر يليق بموقفٍ ديبلوماسيٍّ بحت، ويمتلك شيئًا كبيرًا من السذاجة والتفاهة والغباء، ولا يمتّ بصلة إلى واقع لبناني مخيف بتشنّجه وعنصريته الرافضَين كلَّ وجود غير لبناني على أرضٍ لبنانية، بل كلَّ آخر لبناني إنْ يكن مختلفًا في الدين والطائفة والمذهب والبيئة الحاضنة، علمًا أن تصريحًا لنائب لبناني يُدعى نعمة الله أبي نصر، معروفٌ بمواقفه المتشنّجة، يؤكّد حجم العنصرية اللبنانية الموجَّهة ليس فقط إلى خارج وافدٍ، بل إلى داخل مختلف، ويكشف كمًّا هائلاً من الاهتراء والخلل والانهيارات. فالتصريح ـ وإنْ يبتعد عن الملف السوري في لبنان، وللنائب المذكور كلامٌ كثيرٌ يشي بعنصريته القاتلة إزاء اللاجئين السوريين، والفلسطينيين قبلهم ـ يقول بـ"نقاء" العرق الماروني البحت داخل كسروان والمتن (منطقتان مارونيتان في جبل لبنان)، "أما موارنة الخارجين على كسروان والمتن" فلن يكونوا "موارنة أقحاح".

إنْ تُمارَس العنصرية ضد أبناء الطائفة الواحدة، أفلن تُمارَس ضد أبناء الطوائف الأخرى، والبلدان الأخرى، والثقافات الأخرى، إنْ تكن تلك الطوائف والبلدان والثقافات مغايرة تمامًا لطوائف العنصريين وبلدانهم وثقافاتهم؟

التذكير بموقف نعمة الله أبي نصر متأتٍ من تنامي ثقافة العنصرية اللبنانية بأشكالها المختلفة، وتأكيدٌ على أن "الحقارة" الأخلاقية لا قعر لها ولا حدود، من دون تعميم أو شمولية، ومن دون التغاضي عن قول لسينمائي أميركي يكشف جهلاً فظيعًا بطبيعة الوقائع المُعاشة يوميًا، في بلدٍ مُفكَّك ومعطوب ومُصاب بشتّى أنواع الأمراض القاتلة، وأبرزها تلك العنصرية المتنامية إزاء "غرباء" (عربٌ وآسيويون وأفارقة تحديدًا) يأتون إليه لعملٍ أو لراحة ولو مؤقتة (والعمل يكون غالبًا ذاك الذي "يترفّع" لبنانيون كثيرون، وباشمئزاز، عن ممارسته)، من دون أدنى تفكير لا بتوطين ولا بإقامة طويلة ولا بلجوء أبديّ. ما يقوله بن ستيلر غريبٌ كلّيًا عن واقع يُفترض به ـ كسفير منظّمةٍ دوليةٍ وإنْ يكن سفيرًا لـ"نوايا حسنة"، والتعبير هذا يمتلك سذاجة تتفوّق على سذاجة غربيين كثيرين ممن يحملونه ـ أن يُدركه، أو أن يُجمِع معطيات ومعلومات موثّقة عن "أرضٍ" يريد زيارتها، وعن بلدٍ يأتيه من أجل عمل "إنساني".

لكن تصريح بن ستيلر، بما يحمله من تناقض مع واقع لبناني سيء، يحثّ على طرح سؤال المغزى من تولّي نجومٍ هوليووديين (بالإضافة إلى نجوم الغناء والموسيقى والرباضة وغيرها من الفنون والألعاب الجماهيرية الكبيرة) مناصب "إنسانية" كهذه

لكن تصريح بن ستيلر، بما يحمله من تناقض مع واقع لبناني سيء، يحثّ على طرح سؤال المغزى من تولّي نجومٍ هوليووديين (بالإضافة إلى نجوم الغناء والموسيقى والرباضة وغيرها من الفنون والألعاب الجماهيرية الكبيرة) مناصب "إنسانية" كهذه، علمًا أن مفردة "إنسانية" تحتاج، اليوم قبل أي وقتٍ سابق، إلى إعادة تحليل وتحديد. إذْ كيف يُعقل لسينمائي معروف في أنحاء مخلتفة من العالم أن يتفوّه بكلامٍ، لن يتفوّه به سياسيون لبنانيون فاسدون رغم شدّة فسادهم؟ وكيف يُعقَل لسينمائيّ مثل بن ستيلر أن يقع في تناقضٍ بين تجواله في مخيّمات لاجئين سوريين تعاني مصائب جمّة، يُشير هو نفسه إليها، وتصريحات غير مختلفة عن تلك التي يقول بها سياسيون وديبلوماسيون غير راغبين في إعلان موقف صريح وواضح لمصالح متعلّقة بمن يُمثّلون؟ ألن يكون السينمائيّ أكبر وأهمّ وأعمق من أي سياسي في أية بقعة في العالم؟ ألن يكون السينمائيّ، وأي فنان أو أديب أو مفكّر أو باحث (إلخ.)، مُحصّنًا من تفاهة التعابير العامة (أو هكذا يُفترض به أن يكون)، التي تُقال إثر لقاءات بين زعماء يُصرّحون علنًا بما هو نقيض ما يقولونه سرّا؟ أإلى هذا المستوى المنحدر، أخلاقيًا و"إنسانيًا"، يصل سينمائيّ، هو أساسًا غير مهمّ فنيًا وإبداعيًا، وغير فاعلٍ في التجديد التمثيلي والأدائي والإخراجيّ، وإنْ يظهر في دور مهم أو في إخراج مهمّ او في إنتاج مهم فهذا نابعٌ من ظرفٍ مؤقّت، وظهوره عابرٌ؟

لن يكون هذا حكرًا على بن ستيلر، وإنْ تختلف تصرّفات زملاء له في المهنة عمّا يفعله هو. فأنجلينا جولي (1975) مثلاً، تتجوّل، هي أيضًا، في بلدان يُعاني أبناؤها تهجيرًا وتشريدًا، وتحاول ـ في كلّ مرة ـ أن تبرز صُوَرُها الفوتوغرافية والبصرية كي يُشاهدها العالم بأسره ويتعاطف معها أثناء تعاطفها مع مهاجرين ومنفيين ولاجئين ومُصابين بأمراضٍ مستعصية. تأتي إلى بيروت كي تزور مخيّمات لاجئين، وتتصوّر مع نساء مُصابات بألف همّ وخيبة وانكسار، وتذرف دمعًا لن يُضمِّد جرحًا، وهذا كافٍ لها، إعلاميًا واستعراضيًا وجماهيريًا، لأنْ لا شيء عمليّ قادرةٌ على فعله، ولا شيء حيويّ تستطيع إنجازه كدعم حياتي وفعلي لمن يحتاج إلى دعمٍ كهذا، باستثناء الحصول على منحة من هنا، أو جعم مالي متواضع من هناك، أو ترويج إعلامي من هنالك.

في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2015، ينشر الموقع الإلكتروني "كالتوربوكس" مقالة تروي تفاصيل الحكاية، المختصرة بما يلي: لاجئ سوري يفقد 7 أفراد من عائلته، بينهم زوجته وابنته. عند استماع إدوارد نورتون إليها، يتأثّر إلى درجة انهمار دموعه

أما إدوارد نورتون (1969)، فيمزج بين الاستعراضي والذاتي الحميم في حكايته مع لاجئ سوريّ، يعرف بها بفضل موقع إلكتروني. ففي 24 ديسمبر/ كانون الأول 2015، ينشر الموقع الإلكتروني "كالتوربوكس" مقالة تروي تفاصيل الحكاية، المختصرة بما يلي: لاجئ سوري يفقد 7 أفراد من عائلته، بينهم زوجته وابنته. عند استماع إدوارد نورتون إليها، يتأثّر إلى درجة انهمار دموعه (كما يقول في تصريحات مخلتفة)، فيتواصل معه، ويمنحه 460 ألف دولار أميركي، ويُساعده على الانتقال من تركيا إلى الولايات المتحدّة الأميركية. بينما جورج كلوني (1961) ـ المهتمّ بـ"دارفور" السودانية، وبأناسٍ غير مالكين "ملجأ" يُقيمون فيه، بالإضافة إلى مسألة المُهاجرين ـ يُدرك تمامًا كيفية تسخير التلفزيون ووسائل التواصل الإعلاميّ بأشكالها المختلفة كي يبلغ قلوب الملايين، فيُخبرهم بمآسٍ ومصائب وخراب تضرب أناسًا كثيرين في العالم، محرّضًا إياهم على مساعدتهم. لكن، هل ينجح في ذلك؟ هل يتحرّك العالم من أجل إنهاء جذر المصائب، وليس فقط من أجل مساعدة عابرة، أو دعم مؤقّت؟

تطول اللائحة، المتضمّنة نمطين يتناقض أحدهما مع الآخر في العمل مع اللاجئين. فالأول، نادر الوجود، متمسّكٌ بأخلاقية ما تُنزّهه عن الوقوع في فخّ التصاريح المُسطّحة والساذجة؛ والثاني طاغٍ وغارق في استعراض إعلاميّ يظنّ أنه يُضيف إلى نجوميته شهرة جديدة، تحمل هذه المرة لقب "إنسانية".