عن الهجرة، والوداع الأول والأخير

2019.06.16 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"تركوني وكملو ما عاد احسن.." عند قمة الجبل الفاصل بين الحدود السورية التركية، مستلقيًا قرب جدار الفصل، منتصف ظهيرة يوم صيفي حار، الشمس عامودية، أرتدي بنطالين وجاكيتاً شتوياً، كان المخطط أن نعبر الحدود ليلًا ومن المعروف أن ليل الجبال قارص حتى في الصيف، إلا أن التوقيت اختلف بطلب منا عندما رفضنا الخروج من طريق مختلف غير مُجرّب، فضّلنا تأجيل الخروج على المقامرة بخيار آخر، وكأن الخيار الأول كان أكثر عقلانية، وكأن كل ما مررنا به كان مدروسًا و(عاليبرة) وكأن تصرفاتنا منذ 15/3/2011 لم تكن أمثلة للجنون وربما تعريفٌ له وتجسيد حقيقي.. مستلقيًا على ظهري على يميني الحدود السورية، جبال عالية، أشجار كثيفة، لكن دون أفق، بينما الحدود التركية على يساري جبال أقل ارتفاعًا، خضرة، نهر جارٍ في أفق بعيد، مدى لا محدود لكن لا يُرى آخره، تجسد آخر في المشهد ذاته.. المجهول.

لا أدري ما الذي حلّ بي حينها وأنا ربما أكثر السائرين في هذه الرحلة ممارسة للرياضة، تعبت قبل الجميع، أُنُهكت قواي تمامًا، أهو اللباس الثقيل، أهو الحر الشديد، أم أنه تعب السنين عندما يُثقل الجسد فجأة فتنهار القوى وتعجز عن الحركة، كررتها أكثر من مرة (يا شباب كملو إنتو خلو الجندرما ترجعني أنا ما عاد احسن كمل) عن المسير أم المسيرة لا أدري..

قطعنا الحدود بأمان بعد أحداث أشبه بالسينمائية كنا أربعة وخامسنا (الدلّال) وهو اسم يطلق على الشاب الذي يقوم بإرشاد مجموعة الأشخاص المراد عبورهم الحدود، دلّالنا كان يسير بنا في (طريق التهريب) لمرته الأولى، أنصتنا بفزع عندما يكان يوصيه المشرف وهو فرد آخر من شبكة التهريب بألا يسلك طريق النهر الخاطئ وإلا سنكمل باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.. "بتمشو بعكس مجرى النهر، بتوصلوا لفرعين، واحد لتركيا والتاني لمناطق النظام، دير بالك..).

دلّالنا كان يسير بنا في (طريق التهريب) لمرته الأولى، أنصتنا بفزع عندما يكان يوصيه المشرف وهو فرد آخر من شبكة التهريب بألا يسلك طريق النهر الخاطئ وإلا سنكمل باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة النظام

(والله لنكيّف) قلناها نحن الأربعة في داخلنا، "آخرتنا ننكمش عايشين" وفعلًا حدث ما كنا نخشاه، ضلّ الدلّال عن الطريق، ماذا نفعل؟ وما يمكننا أن نفعل لا بد من المغامرة مشينا وفق تحليلنا للطريق الصحيح، بعدها هاتفنا المشرف للتأكد من الطريق الصحيح من جوالي وذلك جنون آخر لوحده فإن قبضت علينا الجندرما ظنوني المهرب وربما لن أخرج حيًا من بين أيديهم، ولأجل هذا لا يحمل الدلّال "البندوق" هاتفًا معه عند العبور، وصلنا بعد عناء ساعتين وهي مدة قليلة جدًا بعرف المهربين ومقارنة بتجارب السوريين، هل كنا محظوظين، هل كان علينا أن نفرح حينها ونحن نغادر وطننا بهذا الشكل..

هل مكتوب علينا دائما أن نغادر بغصة، قبل نحو سنتين كتبت في تدوينة: "وهنا على أعتاب دمشق وثراها حيث طال البعد مع قصر المسافة بيننا وبينها، تتعلق الأنظار بالمدينة المتوهجة المتلألئة في مساءٍ صيفي لطيف، وتأسى على حالها وحالنا الشبيه بها فكلان سجين، محاصر، أتعبنا الحنين إلى الحرية والنصر المنشودين، ويقتلنا مع كل مرة نفكر فيه، بعدٌ أبدي عنها قد يحين يوما.." البُعد حان بعد أقل من سنة، تحديدًا في 10/5/2018، داريا جعلتنا ندرك المصير المحتوم، وانتظاره بأسى وقهر وخنقة، سدّنا الأخير سقط بعد صمود لا بشري، استعددنا جيدًا لرحيل أبدي، تنفسنا هواء جنوب دمشق وكأننا نستطيع تخزينه في رئاتنا، بكينا، صوّرنا وتصوّرنا، أمعنا النظر في قاسيون، أحياء دمشق المترامية عليه، سماء دمشق، غيومها، طيورها، عشوائياتها البعيدة، جبالها المحيطة الصماء القاسية، هي صلاة مودّع، وداع لحبيبة مأسورة عجزنا عن تحريرها، وعجزت عن مقاومة جلّادها..

أيام متبقية على الرحيل، فوضى تعم المنطقة، بيعٌ وشراء، ترقب وخوف، انتظار ووداعيات مؤلمة، كيف ينبغي للأرض أن تودع أبناءها، بعد ما ارتوت من دمائهم لأجلها، كيف ينبغي للسماء أن تودّعهم، هل للأمطار الربيعية دلالة، إن كان ذلك فبكت السماء لبكائنا، كيف لنا أن نودّع شهدائنا، كيف نتركهم وحدهم مع الخيبات، مع القهر، مع قاتلهم، لو كنا نستطيع حملهم معنا لحملت جثماني يوسف يونس وعبد الرزاق الجوجو على ظهري ومشيت.

تنفسنا هواء جنوب دمشق وكأننا نستطيع تخزينه في رئاتنا، بكينا، صوّرنا وتصوّرنا، أمعنا النظر في قاسيون، أحياء دمشق المترامية عليه، سماء دمشق، غيومها، طيورها، عشوائياتها البعيدة، جبالها المحيطة الصماء القاسية، هي صلاة مودّع، وداع لحبيبة مأسورة عجزنا عن تحريرها، وعجزت عن مقاومة جلّادها..

أيهما كان أشد علينا حينها وداع الأرض أم الأهل أم الشهداء أم الذكريات، خربتشاتنا ولوحاتنا على الحيطان، حارات ركضنا فيها هربًا من الشبيحة يومًا، وأخرى خلفهم، أبنية مدمرة سقطت فوق رؤوسنا، وأبقتنا أحياء -للأسف- حشائش الأرصفة الضارة التي أبقتنا واقفين في أشد أيام الحصار، نظرات أطفال الذين حكينا لهم يومًا قصص الكرامة والحرية والوطن، ربما جميعها مجتمعة، كان وداعي الأول والأخير، قلتها للمقربين المصاحبين في رحلة التهجير البائسة، ودّعوا جيدًا فلن نعود لندفن فيها.. أكان اليأس أم الحقيقة المرّة؟..

إسطنبول تشبه دمشق في كل شيء إلانا، فشوارعها لم تشهد تظاهرات الميدان، وساحاتها لم تعرف مسائيات برزة، ومحالها لم تسمع بإضراب الكرامة، ولغتها لم تردد "الشعب يريد إسقاط النظام" ولم تلعن روح المقبور حافظ، وحروفها لم تشدُ "جنة يا وطنا"، في إسطنبول كل شيء إلا ما نحتاجه، وما حاجتنا بكل شيء، لا أريد سوى بيتي في ببّيلا وبطارية سيارة (12 فولط) ومترًا من "اللدات" للإنارة وقليلًا من الأكل والشرب وكثيرًا من الحرية والكرامة، لا أحتاج سوى لوطن.. بذلنا كل ما نملك لأجل وطننا ففقدناه كُله، حملنا كرامتنا على ظهورنا ومشينا.. هل علينا أن نجد لنا أوطانًا بديلة؟ وهل نقوى على ذلك وكم نحتاج من بؤس وخيبات لاستيعاب ذلك؟

لا أريد سوى بيتي في ببّيلا وبطارية سيارة (12 فولطًا) ومترًا من "اللدات" للإنارة وقليلًا من الأكل والشرب وكثيرًا من الحرية والكرامة

عندما استشهد يوسف لم أذرف دمعة واحدة على فراقه لساعات، بكاه الجميع، كل من عرفه -حتى لساعات قليلة- بكاه بحرقة، إلا أنا، أنا من رافقه 11 عامًا وعرفه أكثر من الجميع لم أبكه لحظة مواراته الثرى، استغرق الأمر ساعات ليدوم بعدها أسابيع، كان وردي اليومي أشاهد تسجيلات مصورة له، وأنام باكيًا.. إنها الصدمة، صدمة الفراق، لم أستوعب في البدء ما جرى، لكن بعدها أدركت حتى الفجيعة، وها أنا ذا أكتب هذه الكلمات بعد أكثر من عام على تهجيرنا القسري من جنوب دمشق وهجرتنا في بلاد اللجوء، كنت عاجزًا تمامًا عن الكتابة، دعوني أخبركم بسر، قلمي ليس بسّيال، وأعجز عن البوح بكل شيء دائمًا، ولكنها الصدمة أيضًا، صدمة الوداع الأبدي..