عن المظلوميّة التي لا تسقط بالإنكار والتقادم

2019.04.10 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

شكّلت وتشكل مفاهيم ومفردات أو عبارات كـ"الشعب الكردي، كردستان سوريا، غرب كردستان، المظلوميّة الكرديّة في سوريا، الفيدرالية الكرديّة في سوريا..." قلقاً ورعباً حقيقيّاً، ليس فقط لدى نظام الأسد وحسب والنخب الدائرة في فلكه، وبل لدى قوى المعارضة لهذا النظام، على اختلاف تنويعاتها العقائديّة والأيديولوجية. وكل فكرة أو مفهوم أو عبارة من هذه العبارات، تحظى بنقمة وسخط وغضب واضح لدى الطرفين، ويتم تصنيف من يتبنّاها من الكرد السوريين على أنه انفصالي، خائن، ملحد، كافر، عميل، صهيوني-أمريكي...إلخ، وفي أفضل الأحوال؛ مشكوك في وطنيّته!

مناسبة هذا الكلام، هو الإشارة إلى أنه بعد مرور ثماني سنوات على الثورة السوريّة، صدرت العديد من المقالات والكتب أيضاً، تتناول التجربة السوريّة التي كانت جزءاً مما اصطلح عليه بـ"الربيع العربي"، وصارت في صدارة التراجيديا الإنسانيّة التي فضحت العالم أيضاً، ومع ذلك، حتى الآن لم أجد أيّة مراجعات نقديّة ثقافيّة فكريّة، معمّقة، ليس للنظام الدولي بشكل عام، والأنظمة الإقليميّة ونظام الأسد وحسب، بل مراجعة نقديّة للثورة السوريّة نفسها، للمعارضة والنخب التي تعتبر نفسها بأنها "ثورة الحريّة والكرامة" (لا زيدٌ أو عمرو)، وماذا غيّرت فيهم الثورة؟ ومدى تحررهم وتخلّصهم من الموروث البعثي؟ وهل صاروا على براءة تامّة من هذا الموروث بحيث يمكن اعتبارهم حقّاً منشقّين عن النظام وعلى كل منظومته وترسانته القيميّة والمفاهيميّة ومعاييره ومقاييسه ومقارباته وإرثه البغيض في التعامل مع قضايا الأقليّات القوميّة والدينيّة وحقائق التنوّع والاختلاف الاجتماعي والقومي والإثني السوري، وليسوا مجرّد مشتقّين من نظام الأسد، ينازعونه السلطة والملك فقط؟ وما مدى أو مستوى

هناك مظلوميّة كرديّة مركّبة ومعقّدة في سوريا، تفقأ عين كل من ينكرها، بل تصفعه بحقائقها ومعطياتها أيضاً

ضلوع النخب الثقافيّة المعارضة لنظام الأسد، في إفساد وتشويه وتسميم الثورة؟ وتورّطهم في حالة التعتيم على الواقع السوري، شديد التنوّع والثراء، والهروب من حقائق هذا الواقع، عبر إنكاره، بخاصّة ما يتعلّق بالحيثيّة الكرديّة شديدة القدم والأصالة في سوريا؟

هناك مظلوميّة كرديّة مركّبة ومعقّدة في سوريا، تفقأ عين كل من ينكرها، بل تصفعه بحقائقها ومعطياتها أيضاً. لكن شراسة الإنكار الموجودة لدى نظام الأسد، يقابلها شراسة إنكار للمظلوميّة الكرديّة في المعارضة السوريّة أيضاً، على اختلاف تنويعاتها وتلاوينها؛ الأخوانيّة والعلمانيّة. هذا الإنكار الشديد، الذي يصل بالبعض إلى درجة السخط والسخريّة والتنّدر، هو شكل من أشكال التورّط في هذه المظلوميّة، وأحد دعائم أو روافع ديمومتها أيضاً. ذلك أنه بدلاً من إجراء المراجعات النقديّة الفكريّة الاجتماعيّة - الثقافيّة - السياسيّة من قبل بعض نخب المعارضة السوريّة، بخاصّة ما يتعلّق بكثير من القضايا والمفاهيم المذكورة أعلاه، يتمّ التهكّم على كل مثقف يحاول طرح هذه المفاهيم والأسئلة المتعلّقة بها على أنه "أقلوي" أو يروّج لمظلوميّة زائفة غير موجودة! ودائماً يكون المبرر الأكثر رواجاً ووجاهة لدى هؤلاء قائم على أن السوريين كلهم ظلموا، ولا فرق بين كردي وعربي، مسلم ومسيحي، سنّي وعلوي...، في الظلم الذي لاقاه وعاناه وعايشه السوريون تحت نير احتلال نظام الأسد - البعث للبلاد وتحكّمه بمصائر العباد. لا! كان هناك فرق، وفرقٌ واضحٌ وبيّن، لن يعترف به إلاّ من تجرّد تماماً من الإرث البعثي الذهني والمفاهيمي.

النخب السوريّة المعارضة، أو أغلبها، لئلا أسقط في التعميم، حالها أكثر سوءاً من حال النخب العراقيّة المعارضة لنظام صدّام حسين. النخب العراقيّة، لم تكن تنكر خصوصيّة المظلوميّة الكرديّة في العراق، ضمن الظلم العام الذي لحق بالعراقيين؛ شيعة وسنّة، إبان النظام العراقي البائد. كذلك حال بعض النخب السوريّة التي تنفي وتنكر وجود مظلوميّة كرديّة في سوريا، هو كحال الألماني الذي يحاول نفي المظلوميّة اليهوديّة أو مظلوميّة الغجر أو المعاقين الذين كانوا يساقون إلى المحارق ومعسكرات الاعتقال النازي في ألمانيا، على أن الألمان كلهم كانوا مظلومين، وذاقوا الظلم نفسه أو بنفس المستوى الذي ذاقه اليهود والغجر وذوي الاحتياجات الخاصّة على زمن الاحتلال النازي لألمانيا؟! هؤلاء كانوا يساقون للمحارق، ليس بوصفهم مجرّد مواطنين ألمان عاديين أو معارضين، بل بوصفهم يهوداً و"سموماً" و"تشوّهات" في جسد الشعب الألماني، ينبغي التخلّص منها، بحسب المنطق النازي في التعامل مع التنوّع والاختلاف! طبعاً، لا يوجد شيء من هذا القبيل في ألمانيا، ممن يحاول توسيع دائرة المظلوميّة اللاحقة بالألمان، بهدف إنكار المظلوميّة اليهوديّة الخاصّة والمميّزة والواضحة المعالم والأركان. لا يوجد مثقف ألماني، يطالب ضحايا النظام الهتلري من اليهود بأن يتوقّفوا عن الحديث حول مظلوميّتهم، لأن الظلم الذي لحق بالألمان كان بنفس القدر والقسط وعلى حد سواء، وأنه كان هناك عدل هتلري في توزيع الظلم على الألمان دون التفريق بين الدين والجنس والقوميّة والعرق...إلخ! لكننا نجد نماذج من هكذا مثقفين سوريين، موجودين ولا تخطئهم عين، ضمن المؤسسات السياسيّة والإعلاميّة التي تزعم معارضة نظام الأسد!

هذا التلاقي والتقاطع في إنكار المظلوميّة الكرديّة في سوريا، بات في حكم المتفق عليه بين النخب الموالية للنظام الكيماوي الحاكم لسوريا، وأغلبية النخب المعارضة له. وإذا كان هناك ما يفسّر ويبرر نفي النخب الموالية لنظام الأسد للمظلوميّة الكرديّة، على اعتبار أنهم إذا اعترفوا بها، فأنهم يدينون أنفسهم ونظامهم على اقترافها وارتكابها. ولكن، ما حال النخب المعارضة في نفي وإنكار المظلوميّة الكرديّة في سوريا؟! ذلك أن هذه المظلوميّة قديمة، وسابقة على ما ارتكبه نظام الأسد الأب والابن في حماة سنة 1982، وفي كل المدن السورية بعد سنة 2011. فجرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد بحق سنّة سوريا، واقع حال، لا يمكن إنكاره أو تجاهله. ذلك أن النظام السوري، طائفي، ومن مخلّفات ومفرزات "الوسخ التاريخي" بحسب تعبير المفكّر السوري - الفلسطيني أحمد برقاوي. و"الوسخ التاريخي" لدى نظام الأسد، على الصعيد الطائفي، والذي ظهر وتجلّى أكثر في مطلع الثمانينات، سبقه "وسخ تاريخي" قومي، عنصري، فاشي، تمثّل في مشاريع التعريب، والصهر القومي للكرد، وتجريدهم من الجنسيّة، وإنكار وجودهم كبشر، وكقوميّة وشعب، وحظر هويّتهم ومنع التكلّم بالكرديّة... إلى آخر السياسات والمخططات العنصريّة التي طبّقها نظام الأسد الأب بحق الكرد في السبعينات. والحق أن الكرد في سوريا، في حقبة الثلاثينات والأربعينات وحتى منتصف الخمسينات، كان حالهم أفضل مما كانوا عليه في الستينات وحتى قبل 2011. والأدّلة على ذلك أكثر من أن تحصى. وعليه، "الوسخ التاريخي" الذي كان وما زال يتمرّغ فيه ويعتاش عليه نظام الأسد الأب - الابن، بالنسبة للكرد، هو "وسخ تاريخي" مركّب؛ قومي - طائفي، حيث تم التعامل مع الكرد على أنهم قوميّة مختلفة يجب قمعها وصهرها ضمن البوتقة العروبيّة، من جهة، ومن جهة أخرى؛ على أن أغلبهم مسلمون سنّة. والمشكل هنا، أن بعض رجال الدين الذين ينحدرون من أصول كرديّة، عاضدوا نظام الأسد الأب في كل سلوكه وممارساته الفاشيّة ضد السوريين عموماً، ومن ضمنهم الكرد، كالشيخين أحمد كفتارو، ومحمد سعيد رمضان البوطي. كما عاضد خالد بكداش، المنحدر من أصول كرديّة، نظام الأسد الأب، في التغطية على جرائمه بحق السوريين.

جدلاً؛ لا يوجد مظلوميّة كرديّة في سوريا، فأين الكرد في الشعر السوري الذي كتبه شعراء وشاعرات عرب قبل الثورة السوريّة؟ أين الكرد في الرواية السورية التي ألفها روائيون وروائيات عرب، قبل الثورة السوريّة؟ هل يمكن أن يشير لي البعض عن وجود - حضور الكرد في أدب؛ حنا مينة، عبدالسلام عجيلي، زكريا تامر، حيدر حيدر، نبيل سليمان، خيري الذهبي، فواز حداد... وآخرين كثر؟ طبعاً، هناك استثناءات جد قليلة؛ كخالد خليفة، وسميرة مسالمة، لكن ما هي نسبة هذه الاستثناءات من عموم الكتّاب والروائيين السوريين؟ أين الكرد في السينما السوريّة، قبل وبعد الثورة السوريّة؟ أين الكرد في الدراما السورية (مع وجود بعض الإقحامات الطفيفة التي أتت بفضل بعض الكرد المشتغلين في حقل الدراما)... بل أين الكرد في الأفلام الوثائقية التي أخرجها مخرجون سوريون عرب بعد الثورة على نظام الاسد، إن كنّا نعتبر الأخير هو المسؤول عن كل ذلك التغييب المقصود أو غير المقصود؟

صحيح أن نظام الأسد الأب والابن كانا وراء سياسات الصهر القومي والتغييب والتهميش التي مورست بحق كرد سوريا الذين يتجاوز تعدادهم 2،5 مليون مواطن سوري، إلاّ أن الصحيح أيضاً أن بعض الأدباء والشعراء السوريين نحو منحى النظام، من قصد أو من غيره، وكأنّه لا يوجد شعب على الأرض السوريّة، قديم وأصيل، اسمه الشعب الكردي! طبعاً، البحوث والدراسات التاريخيّة - السياسيّة التي اشتغل عليها بعض المحسوبين على نظام الأسد، وبعض المحسوبين على معارضته، والتي تتعلّق بمحاولات نفي الوجود القومي الكردي في سوريا، تلك الدراسات والأبحاث المسيّسة والمغرضة، هي أيضاً ما عادت تخطئها عين.

يمكن أن أجد بعض الاستثناءات في الوسط السياسي العربي السوري، كما ذكرت، ممن يمكن الاعتداد بهم والتعويل عليهم في هذا السياق، كالكتّاب والأساتذة الأصدقاء؛ عمر قدور، وأكرم البنّي، والباحث والمفكّر؛ جاد كريم الجباعي، وآخرين. وحتى ياسين حاج صالح، على علاقته الطيّبة مع الكرد، وعلاقة الكرد الطيّبة به ومواقفه الإيجابيّة، لا أجده بمستوى البنّي والجباعي وقدور في تعامله مع القضيّة الكرديّة والوجود القومي للكرد.

هذا التغييب الواضح للكرد في الأدب والسينما والدراما السورية، قبل الثورة، لهو دليل واضح وفاقع يؤكّد وجود مظلوميّة كرديّة في سوريا، معطوفاً على ما تمّ ذكره أعلاه. ثمّ يأتي البعض، ويكرر بأن الكرد، في حقبة الخمسينات استلموا مناصب عليا في الدولة، وأن هذا دليل دامغ على عدم وجود ظلم أو مظلوميّة لاحقة بالكرد. هذا المستوى من السطحيّة والثرثرة التي ترتدّ على أصحابها، يتغافل أصحابها عما جرى بحق الكرد منذ مطلع الستينات وحتى قبل 2011؟ وأن حسني الزعيم، فوزي سلو، محسن البرزاي، خالد قوطرش...، والبعض من آل الأيوبي، بوظو... الذين استلموا مناصب في الدولة، لم يكن بوصفهم أكراداً، بل ينحدرون من أصول كرديّة، وبوصفهم منتمين لأحزاب

وجود بعض المنحدرين من أصول كرديّة في مناصب عليا، في الخمسينات، وفي حقبة الأسد الأب، ثم الابن، لا ينفي وجود مظلوميّة كرديّة كاملة الأركان والأوصاف

وتيّارات قوميّة عربيّة. زد على هذا وذاك، نظام الأسد حاليّاً لديه أكراده، فهل يمثّل هؤلاء الشعب الكردي؟ وهل وجودهم في دكاكين نظام الأسد دليل على أنه نظام وطني وديمقراطي؟! كذلك يوجد عرب سنّة موالون لنظام الأسد، بعد كل ما جرى في سوريا، هل هذا يعني أن الموالين لنظام الأسد من العرب السنّة يمثلون السنّة؟! فلا الإخوان، ولا جبهة النصرة وداعش، ولا بدر الدين حسون وأمثاله يمثّلون السنّة.

أعتقد أنه لا ينبغي أن نغفل عن بديهيّة أن نظام أردوغان أيضاً له أكراده، الذين لا يمثلون الكرد، ولديه علويوه الذين لا يمثلون العلويين، ويتم استخدامهم كواجهة فقط. كذلك فعل نظام صدام حسين، كان له أكراده، وشيعته. وهكذا يفعل الإيراني أيضاً، له أكراده والسنّة الموالون له. وعليه، وجود بعض المنحدرين من أصول كرديّة في مناصب عليا، في الخمسينات، وفي حقبة الأسد الأب، ثم الابن، لا ينفي وجود مظلوميّة كرديّة كاملة الأركان والأوصاف، لها خصوصيّتها، وهي جزء مؤلم وعميق من المظلوميّة السوريّة العامّة، تحت نير الاحتلال الأسدي. هذه اللوحة أو هذا المشهد، تنكره أغلبيّة النخب المعارضة لنظام الأسد، بنفس القدر الذي تنكره النخب الموالية للنظام. والأنكى من هذا وذاك، أنه حين كتبتُ بضعة أسطر بحق كاتبة روائيّة سوريّة، حققت إنجازاً يفتخر به كل السوريين، وأشرت إلى التجاهل الذي لحق بهذه الكاتبة، ثارت ثائرة البعض، على أن كاتب هذه الأسطر، "أقلوي" و"فئوي" و"مناطقي" و"مغرور"... إلى آخر هذه المتوالية من الأوصاف التي تستقي من القاموس البعثي، حتى لو كان أصحاب هذا التقرّب والتعاطي من عتاة معتقلي الرأي في سجون الأسد.

خلاصة القول: ليس شيئاً مفرحاً لي أو مدعاة للفخر، بعد مرور ثماني سنوات على ثورة الحرية والكرامة في سوريا؛ أن أكتب حول هذا الموضوع، في إطار محاولة إقناع الشريك السوري بحقيقة وجود مظلوميّة كرديّة في سوريا. فمن لم يقتنع بهذه البديهيّة بعد مرور ثمان سنوات على ثورة الحريّة والكرامة، فمن أنا حتى أفلح في إقناعه بذلك؟! وهذا يعني أن الترسانة أو الخراسانة البعثيّة من المفاهيم والذهنيّة التي غرسها نظام الأسد فينا، ربما بحاجة إلى مئة ثورة حرية وكرامة، حتى يتم الإطاحة بها وإسقاطها من الوعي واللاوعي السوريين.