عن العمتين المخطوفتين والحداد المفتوح منذ أربعين عاماً

2019.04.26 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعض الجروح غير مؤهلة للاندمال أو للشفاء. تسطع دوماً بكامل وهجها كما في اللحظة الأولى، وكأن نصلها الحاد قد اخترق للتو أحشاء حياة المرء، وحول وجوده بأسره بكل تفاصيله إلى ألم يتراكم يوماً بعد يوم.

كانت اللحظة التي عرفت فيها عائلتي خبر اختطاف عمتاي من أحد المراكز الإغاثية التابعة لمنظمة لفتح عام 1979 هي اللحظة التي غادرت فيها الحياة كل أفراد العائلة الذين كانو ا قد ولدوا أو الذين سيأتون بعدها. كان الأمر أشبه بحكم أبدي بإعدام دائم، ويتكرر مع كل تفصيل من تفاصيل العيش.

فجأة بات الفرح بأي مظهر من مظاهره بمثابة اعتداء على طقس الحداد المفتوح والذي لا يزال مستمرا حتى هذه اللحظة. جدتي التي كنا نتشاطر معها الإقامة في شقة من شقق التهجير القائمة على خط التماس في منطقة الشياح، بعد أن صادر الجيش السوري العظيم شقتنا بكل ما تحتويه من ممتلكات  بدعوى الضرورة الحربية، كانت قد اتخذت قرارا بارتداء الثياب السوداء حتى نهاية عمرها، وقد التزمت فعلا بهذا القرار حتى وفاتها منذ حوالي تسعة أعوام.

ترافق الحداد المستحيل والذي لا يمكن له أن ينجز الذي فرضته جدتي مع جملة من الإجراءات الطقوسية، فالأكلات المفضلة عند عمتاي ممنوعة من الطبخ في المنزل، وأكثر من ذلك كان لا بد من أن تتخذ كل حركة أو كلام يجري داخل حدود جغرافيا العذاب التي نتقاسمها معها ومع جدي طابع الرصانة والانضباط، حيث نما قانون غير مكتوب يقضي باعتبار مظاهر البهجة مهما كانت بريئة نوعا من الاعتداء على ذكرى الغائبتين.

كنا نسمع أغنية "مريم مريمتي" بصوته ونرددها وصودف أنني كنت أترنم بهذه الأغنية حين فوجئت بجدتي تصرخ في وجهي وتنهار باكية قبل أن يغمى عليها وهكذا عرفت اسم عمتي الأولى.

وتشير ذاكرتي في هذا الصدد إلى واقعة حصلت منذ ثلاثين عاما، مع صعود نجم المطرب جورج وسوف الذي كان نجم طفولتنا ومراهقاتنا، ومرجع تحرشاتنا الأولى بالجنس اللطيف، فقد كنا نسمع أغنية "مريم مريمتي" بصوته ونرددها وصودف أنني كنت أترنم بهذه الأغنية حين فوجئت بجدتي تصرخ في وجهي وتنهار باكية قبل أن يغمى عليها وهكذا عرفت اسم عمتي الأولى.

اسم عمتي الثانية عرفته بعد فترة طويلة للغاية وتأخر اكتشافي لصورتهما اليتيمة التي تحتفظ بها شقيقة جدتي في دفتر صور عتيق إلى بضعة أعوام خلت. انطباعي الأول كان الالتفات لمدى جمالهما فالعمات عادة لسن جميلات أو قبيحات، العمات هن العمات وحسب، ولكنني سرعان ما انتبهت إلى أنني أكبر من الصبيتين المراهقتين اللتين تسكنان في الصور بعشرين عاما، وأن سطوة الغياب قد منحتهما ملامح أيقونية كثيفة.

الشعور الذي أنتجه هذا اللقاء كان الحسد، فالغائبون يقيمون في الأساطير الجميلة وينجحون في أن "يتخبوا من درب الأعمار" فعلا، بينما لا نستطيع نحن الذين نحمل صخرة غيابهم سوى أن ننسحق أمام أعمارنا التي توقفت عند لحظة غيابهم.

ألمنا الدائم هو حياة الغائبين وسيرتنا المكتوبة تحت ظلالهم ليست سوى سيرة العلاقة الحميمة التي ننسجها مع حيواتهم المنسوجة من قماش آلامنا، ولكن وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يجوز له التعبير عن نفسه، بل يجب إخفاءه وصونه وكأنه الكنز الذي لا يجب أن يعرف به أحد والذي لا يمكن مشاركته وتقاسمه.

يرد الألم الممنوع من الظهور بأن يتحول إلى باطن آيل لنمو كل أنواع السلوكات الرضوخية، وخصوصا تلك المرتبطة بالقدرية وعدم قدرة المرء على التحكم في مصيره وإدارة شؤونه والتأثير فيها. نجد أنفسنا مربوطين بصخرة الغياب الثقيلة التي لا تنفك تجرنا إلى الأعماق من دون أن نستطيع أن نفعل شيئا.

ولعل في قضية المفقودين البعد المثالي الذي يؤمن نشر ثقافة العجز والشلل التي تستمد منها كل أنظمة المنطقة شرعيتها. النظام السوري يحرص على إجبار أهالي المفقودين على توقيع إفادات بموت ابنائهم من دون تسليم أي جثة، وكذلك يحرص النظام اللبناني المتماهي مع النظام الأسدي على تجاهل قضية المفقودين عند هذا النظام، أو البحث عن حلول جديد لقضية المفقودين خلال فترة الحرب اللبنانية.

ولعل في قضية المفقودين البعد المثالي الذي يؤمن نشر ثقافة العجز والشلل التي تستمد منها كل أنظمة المنطقة شرعيتها. النظام السوري يحرص على إجبار أهالي المفقودين على توقيع إفادات بموت ابنائهم من دون تسليم أي جثة

لا يعني ذلك سوى أن هذه القضية قد دخلت في عداد المحرمات التي تهدد انتظام سلطات هذه الأنظمة وبناها، لأن حل قضية المفقودين يعني نهاية للألم او السماح بقيام فترة انتقالية، هي فترة الحداد الطبيعي والذي بعد انجازه لا بد من العودة إلى الواقع، والعمل على التعامل معه وتسيير شؤونه، أي العودة إلى السياسة وإلى الشأن العام.

هذا ما لا يمكن القبول به فالوظيفة التي يؤديها استمرار غياب الغائبين هي وظيقة جوهرية، فنحن لا نستطيع إطلاقا التفكير فيما يمكن أن يكون قد حصل لهم وفي حالتي وحالة عائلتي والتي تشكل قاسما مشتركا بين اللبنانيين والسوريين، ونظرا لأن المفقودات نساء فإن التفكير بما يمكن أن يكون قد جرى لهن يقع حارج القدرة على التصور والاحتمال.

من هنا تبدو تلك الشجاعة التي تبديها نساء سوريات خرجن من معتقلات الجحيم الأسدي في سرد ما قد حدث معهن في تلك المسالخ بتفاصيله وكأنه الحرب الأكثر ضرواوة على المنظومة الأسدية وأقرانها في المنطقة، وذلك لأنها حولت ما لا يمكن التعبير عنه، والذي تستعمل الأنظمة الرعب الناتج عنه لضمان استمرارها، إلى كلام نجد أنفسنا مجبرين على تدبره والنظر إليه بكل فظاظته وهوله.

غالبا ما يتم التعامل مع الناجيات من مثل هذه الأقبية المرعبة بوصفهن غائبات أو ممثلات للغياب، ولا يؤدي حضورهن وظيفة النجاة أو الأمل، بل يعزز الصمت والانكفاء والسلبية، ولكن الإفصاح عما جرى يحرم الجلاد من تحويل الضحية إلى ضحية أبدية، ففي اللحظة التي تمتلك فيها الضحية كلامها فانها باتت قادرة على كتابة سيرتها وحرمان الجلادين من أن يكونوا كتاب التاريخ.

تسمح لنا النساء السوريات المعتقلات السابقات بإنجاز الحداد والنظر في عين الغياب وقراءته، وتاليا الخروج من نفقه الأسود الذي يلغي الحياة والسياسة ويجعل الشأن العام مهنة القتلة وحسب.

كلمات مفتاحية