عن الحاجة إلى مانديلا سوريا

2019.07.25 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما يدور الحديث عن "مانديلا سوريا"، وذلك في إشارة إلى المدة الطويلة التي قضاها وما يزال يقضيها المعتقلون في سجون النظام الأسدي. ورغم أن الظروف التي يتعرض لها المعتقلون السوريون أشد بشاعة ووحشية من التي تعرّض لها مانديلا ورفاقه، من دون التقليل لما تعرضوا له، فإن سوريا -لسوء الحظ- لم تتمكن من توليد مانديلا الخاص بها، مع أن العديد من المعتقلين والمناضلين في سبيل الحرية امتلكوا ما يكفي من الرأسمال الاجتماعي والرمزي، من جراء نضالاتهم ضد نظام العائلة الأسدية، منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.

ما يغيب عن المقارنة السابقة مع حالة مانديلا (1918- 2013) وسجنه الطويل الذي دام سبعة وعشرين عاماً (1962-1991) هو العنصر الأهم في حياة ومسيرة مانديلا، وهو سلوكه في سجنه وتطوره الفكري واستيعابه للتغيرات الدولية، والأكثر أهمية هو التزامه الكامل بإنهاء حالة الانتقام، والتفكير الجدي ببناء البلد والدولة، من خلال تبنيه -قولاً وعملاً- لمفهوم التسامح.

سُجن مانديلا عام 1962، مع أعضاء من حزبه (المؤتمر الوطني الإفريقي) في جزيرة منعزلة بعد حُكم بالسجن مدى الحياة، حيث أراد سجانوه (نظام التمييز العنصري/ الأبارتهيد) ألا يرى النور، وألا يتعامل مع البشر أبداً إلى موته، ومُنع من التواصل مع العالم الخارجي أكثر من عشر سنوات. لم تتوقف نضالات الجنوب إفريقيين وحزب المؤتمر الوطني ضد سياسة التمييز العنصري، السلمية والعسكرية التي كانت ويني (زوجة مانديلا) إحدى قيادات المؤتمر والمقاومة المسلحة.

مع التغيرات التي عصفت بالعالم، مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، التي دشنت نهاية ما كان يُعرف بالمعسكر الاشتراكي، وموجة التحول نحو الديمقراطية، وتشجيعها من الولايات المتحدة التي وجدت نفسها سيدة العالم "الحر"، باشر الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، نتيجة تنامي حركة الاحتجاجات والمقاومة المسلحة ضد نظامه، إضافة إلى الضغوط الدولية، إجراءَ المفاوضات مع المؤتمر الوطني الإفريقي، عبر شخصية مانديلا الذي كان حينذاك في سجنه.

لم يتردد مانديلا في قبول خيار التفاوض، وهو الخيار الذي رفضه رفاقه الأربعة الآخرون المسجونون معه، لكنه أصرّ على التفاوض، وقال لهم: سأقوم بتنفيذ ما أنا مقتنعٌ به لمصلحة الشعب الجنوب إفريقي. لم يقدم مانديلا التنازلات والوعود حتى بالتخلي عن الكفاح المسلح ووقف الاحتجاجات، مقابل إطلاق سراحه وإعطائه حصة من السلطة، بل أصر على إطلاق سراحه من دون شروط.

في شباط 1990، وافق دو كليرك، رئيس جنوب إفريقيا آنذاك، نتيجة تصاعد الاحتجاجات والضغوط الدولية، على إطلاق سراح مانديلا، كما أراد، من دون شروط

واجه مانديلا الانتقادات من رفاقه وزوجته، وأصرّ على ضرورة استمرار التفاوض والسعي الجدي لإنهاء نظام الأبارتهيد

ومراسم وخطابات. ولم تتوقف حركة الاحتجاجات والمقاومة المسلحة بعد إطلاق سراحه، وواجه مانديلا حركةَ نقد عنيفة، وصلت إلى حد التجريح والاتهام بالتخوين من رفاقه في الحزب، وأقربهم ويني، زوجته التي قالت إن "مانديلا تخلى عنّا، وإن الاتفاق الذي أبرمه سيئ للسود".   

واجه مانديلا الانتقادات من رفاقه وزوجته، وأصرّ على ضرورة استمرار التفاوض والسعي الجدي لإنهاء نظام الأبارتهيد، ومنع إعادة إنتاجه، من خلال ضرورة إشراك السكان البيض في السلطة، واعتبارهم مواطنين في جنوب إفريقيا، وذلك في محاولة لإزالة الخوف عنهم من إمكانيات الانتقام من غالبية السكان السود، جراء ممارساتهم البشعة بحق السود، ودعا المحتجين وقادة المقاومة المسلحة إلى التوقف عن القتال والاحتجاج، وقال لهم: "أنتم الأغلبية، ويوم التصويت، اذهبوا وصوّتوا لصالح النظام الذي تريدونه.. صوّتوا ضد نظام التمييز العنصري"، وعندما احتج رفاقه قائلين: إن الشعب مستمر في كفاحه ويعارض التفاوض، رّد قائلاً: "نحن قادتهم، ويجب أن نبيّن لهم أنهم على خطأ.. يجب إنهاء حالة الانتقام، ولن تنتهي ما لم نسامح المجرمين".

كان لمانديلا ما أراد، فبعد سنوات من المفاوضات، أُجريت الانتخابات عام 1994 وفاز مانديلا بها، وأصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا. ما ميز مانديلا، إضافة إلى مدة سجنه الطويلة، هو شجاعته وتصميمه على السير في طريق الحرية الطويل بكل الوسائل، ورؤيته الشجاعة التي أصرّ من خلالها على ضرورة قطع سلسلة الانتقام التي لا تنتهي، من خلال التسامح مع الذين يختلف معهم، وبناء دولة القانون والمساواة، حتى مع المجرمين وتجريدهم من كافة القوانين التمييزية التي صنعت منهم "طبقة/ فئة" أخرى. 

في سوريا، رغم كل العذابات التي ذاقها السوريون على يد نظام العائلة الأسدية قبل الثورة، وبخاصة في المعتقلات، وأشهرها تدمر، الذي أصبح

كلنا نعرف أن سياسات النظام التمييزية أدخلت البلاد في حالة من عدم اليقين والتخوف من الآخر، كما أنها أسرت -إلى حد بعيد- الطائفة العلوية خلف سياسته التدميرية

نموذجاً للمعتقلات وأماكن الاحتجاز العديدة في الفروع الأمنية والسجون زمن الثورة، لم تتمكن سوريا من إنتاج شخصية وطنية جامعة، يمكن أن تقود السوريين في الطريق نحو الحرية التي نشدها السوريون في ثورتهم عام 2011، كما لم تتمكن الثورة -في كل مراحلها- من خلق مثل تلك الشخصية، والأسوأ من ذلك، هيمنة خطاب الفرقة والاتهام بين السوريين الذي يؤسس لنفي إمكانية التوافق على شخصية وطنية قائدة.

كلنا نعرف أن سياسات النظام التمييزية أدخلت البلاد في حالة من عدم اليقين والتخوف من الآخر، كما أنها أسرت -إلى حد بعيد- الطائفة العلوية خلف سياسته التدميرية، ووضعتها في مواجهة الناس، اعتماداً على وقائع قديمة وعلى تخيلات ينميها هذا النظام، فقدمت هذه بدورها من أبنائها أكثر من مئة ألف قتيل، متخوفة من حالة ما بعد النظام الأسدي، التي قد تطال مئات الآلاف من مرتكبي الجرائم (عناصر المخابرات والشبيحة والجيش والميليشيات من الطائفة).

لم يكتف النظام بحشد الطائفة العلوية خلفه (سواء بمشاركتها مباشرة في أجهزته الأمنية والعسكرية، أو من خلال سكوتها خوفاً من بديل يريد الانتقام)، بل استطاع أن يحشد أيضاً الكثير من أبناء الأقليات الأخرى ضد تهديد مُتخيّل، ساعده في ذلك سلوك التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وبخاصة داعش، وتمكن بشكل من الأشكال، وبتواطؤ دولي، من أن يصوّر الثورة كحرب بين "الإرهابيين" ونظامه "العلماني".

بعد أن تحوّلت قضية السوريين إلى ورقة من أوراق التنافس والتصارع الدوليين، وتوزّع ملايين السوريين (حوالي ثلث السكان) في مختلف دول العالم، حيث يعانون ظروفاً قاسية، وخصوصا في دول الجوار العربي، إضافة إلى ما يعانيه المهجرون في الداخل، ناهيك عن الذين هاجروا إلى دول أوروبية والذين لا يريدون العودة بأي حال، يصبح من الضروري أن نصنع شخصية تمتلك من المؤهلات ما يكفي للتصرف بشجاعة وتحمل المسؤولية تجاه السوريين وتحررهم، وإغلاق باب الانتقام، وإطفاء نيران الأحقاد، شخصية تضع هموم السوريين وتطلعاتهم أولاً وأخيراً، وتطوي صفحة الماضي، على ما فيه من مآس يصعب تجاوزها، وتنظر إلى الأمام وتأخذ مستقبل الأجيال القادمة في الحسبان، علينا أن نصنع مانديلا الخاص بسوريا، أو -على الأقل- أن نعمل على إبرازه من بيننا.