عن البشاعة في مواجهة الحرية

2019.07.06 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قبل شهر في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا، الرحلة التي أردتها أن تكون نحو الأهل المهجرين والطبيعة هذه المرة بعيداً عن ضجيج المدن وصمت المتاحف وصخب الأنشطة الثقافية، علها تكون أيضاً فرصة للهروب من الذاكرة وكل ما قد يوقظ الحنين فيها.

خرجت برفقة بعض الأهل إلى أحدى الغابات الممتدة على الحدود -غير المحسوسة- البلجيكية الهولندية، الغابات التي كنت أراها للمرة الأولى، لكنها كانت وكأنها مطبوعة في ذاكرتي تماماً، تخرج من برامج الأطفال التي كنت أشاهدها في طفولتي - الفتى النبيل وسنان وجورجي وغيرهم -، هذا هو شجر التوت ذاته يحاصره دود القز بخيوط الحرير، وهذه هي الأرانب أيضاً تنظر إلينا، وكأنها تلقي التحية ثم تهرب، وهذا جزء من الغابة الكثيفة، يقطعه نهر لا سبيل للمرور نحو الضفة الأخرى دون عبوره، وستعبره بطوف صنع من الخشب ليس فيه قطعة معدنية أو بلاستيكية، تم ربطه بحبال تشده، ليتحرك الطوف نحو الضفة الأخرى. نعبر الغابة ونخرج إلى نور الشمس على سهل أخضر دون أن نصادف أي قطعة من الأسمنت، كل شيء هناك صنع من وحي الطبيعة وموادها، كل ذلك كان يرسم الدهشة على وجهي، دهشتي التي كانت سبب دهشة ابنة أخي الصغيرة، التي تفتح وعيها وسط هذا الجمال.

كل شيء هناك صنع من وحي الطبيعة وموادها، كل ذلك كان يرسم الدهشة على وجهي، دهشتي التي كانت سبب دهشة ابنة أخي الصغيرة، التي تفتح وعيها وسط هذا الجمال

مع الوقت كانت دهشتها تصل إلى حد الذهول، تنظر لي عندما أسال أو أستغرب الطريقة التي تم التعامل بها مع الطبيعة، وكأنها تقول لي هذا بدهي، لماذا تستغربين؟ أعذرها طبعاً فهي لا تذكر الكثير من تفاصيل عايشناها وعرفناها في سوريا. كنت أتمنى لو أنني أستطيع إخبارها عن بلدة سعسع وشلالات بيت جن التي زرتها للمرة الأولى، عندما كنت في عمرها، ضمن رحلة مدرسية بتصريح أمني، لأنها تقع في منطقة ملاصقة للحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، وددت لو أصف لها ذلك الجمال، زهرة القرنفل التي لشدة حمرتها كانت تميل للسواد، رائحتها التي مازالت عالقة في روحي رغم مرور السنين الطوال، النهر الذي يمشي على حجارة ملونة، تحسبها لشدة لمعانها أحجاراً كريمة، أشجار الكرز والتفاح المبعثرة في الطريق قريباً من جبل الشيخ فخورة بأن ثمارها الألذ على الإطلاق، وددت لو بقي لي بعض الصور من شلالات ميدانكي في أواخر الثمانينيات، الشلالات التي تمر بجانبها دون أن تبللك، وكأنها تقيم معك علاقة صداقة.

وددت لو أنني قلت لها أن دهشتي اليوم هي ردة فعل على حزن الأمس، عندما عدت إلى سعسع وبيت جن بعد سنوات من زيارتي الأولى، كان النهر يمشي على طبقة إسفلت بشعة، وكان شجر الكرز محاطاً بأسلاك شائكة، وقد قتل شغفي ذاك مجدداً برؤية شلالات ميدانكي مرة أخرى، إذ وجدت في حرمها مجموعة من المقاصف بنيت على عجل بألواح توتياء رمادية، وضع فيها كثير من الطاولات الحديدية والمقاعد البلاستيكية، ذات الألوان الباردة الشائع حضورها في مواقع تمتد من المعتقلات إلى مكاتب فروع الحزب والمدارس وصولاً إلى الأماكن السياحية، التي كرسها عهد البعث الطويل.

في تلك الرحلة إلى أوروبا، كنت كلما رأيت تمثالاً جميلاً، يتوسط حياً صغيراً، تذكرت التصاميم البشعة التي صنعت للرجل الأبشع في التاريخ ولابنه الموصوف بـ"الذهبي"

في تلك الرحلة إلى أوروبا، كنت كلما رأيت تمثالاً جميلاً، يتوسط حياً صغيراً، تذكرت التصاميم البشعة التي صنعت للرجل الأبشع في التاريخ ولابنه الموصوف بـ"الذهبي"، التي كانت تتوسط كثيرا من ساحاتنا، وتساءلت لماذا لم يهتم أحد بتصميم تلك التماثيل، لماذا أريد لها أن تحمل ذلك القدر من البشاعة، لأصل إلى الجواب الأكثر ألماً، أرادوا لنا أن نسكن كل هذه البشاعة لتسكننا، نشروا البشاعة في كل مكان، بدءاً من الأدب الرخيص الذي كانت تروجه منشورات اتحاد الكتاب العرب، ولاسيما مجموعات الشعراء المغمورين، وصولاً إلى  استيلاء النظام على الصحافة وتفريغها من محتواها، وعزلها عن وظيفتها.

أرادوا لنا فناً يشبههم على شاكلة أغاني علي الديك وسارية السواس، ليصنعوا شعباً يقبل برفع شعارهم الأخير: الوفاء لبوط العسكر. في كل هذا كانت البشاعة أداتهم لقهر الجمال والحرية.

كلمات مفتاحية