عن الأسد والجماعات السورية وتفاصيل أخرى

2019.03.03 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يتيح لي رد الكاتبة الأردنية سارة أباظة على مقالي «وليد أباظة: في خدمة السيد» فرصة التوسع في بعض الزوايا التي ضاق عنها مقال كان قد طال أصلاً. ورغم أن الردود والتعقيبات تكون مملة في العادة سأحاول تجنب ذلك. وسأناقش الموضوع عبر النقاط التالية:

 

عقدة بحيرة طبريا:

من المعروف أن انهيار مفاوضات السلام كان بسبب إصرار حافظ الأسد على وصول السوريين إلى بحيرة طبريا، وأنه روى للرئيس الأميركي "بل كلينتون" عن سباحته فيها وأثر هذه الذكرى ورغبته في استعادتها. هذا أمر شهير، ذكره معاونا الأسد الرئيسيان في المفاوضات؛ وزير خارجيته، حينها، فاروق الشرع، ومترجمته بثينة شعبان، في مذكراتهما اللتين ظهرتا في السنوات الأخيرة، فضلاً عن المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين. وحتى في اللقاء المطول الجديد الذي أجرته الإندبندنت العربية مع بندر بن سلطان، وروى فيه ندم الأسد على عناده ذاك وتساهل ابنه بشار في الأمر.

هذه حقائق مدعومة بكثير من الوثائق. ومهما كان موقفنا المعادي لا مجال للقفز فوقها بجمل إنشاء من نوع أننا «نعرف أن طبريا والجولان كانتا قرباناً قدمه الأسد لإسرائيل منذ أن كان وزيراً للدفاع، وخطة تسليم الجولان مع بيان سقوطها كان الأسد قد أعدها سلفاً (...) والمفاوضات التي أدارتها أميركا آنذاك لم تكن إلا لتلميع الأسد الأب وإظهاره بمظهر المقاوم الذي يرفض السلام ويحتفظ بحقه في استعادة الأرض بالقوة ويحتفظ بحق الرد».

الأمور أعقد من ذلك بكثير. وهذا كلام لا يصلح للسياسة، مثلما لم يكن الهدف من ذكر زيارة الأسد إلى الجولان، بدعوة مفترضة من ابن دورته ممدوح أباظة، سياسياً، وإنما لرسم صورة عن العلاقة الوثيقة بينهما.

 

الخطيفة:

ذكرت أن زواج الأسد من أنيسة مخلوف، رغم معارضة أبيها، عبر «الخطيفة» على النمط الشركسي، تم بمساعدة ممدوح وشقيقه شرف.

تقول سارة إن هذه الرواية «غير دقيقة ولم يذكرها أحد من قبل ولا يوجد ما يؤكدها». أما القول إنها «غير دقيقة» فيوحي أن لدى الكاتبة رواية أخرى «دقيقة»، وهو ما لا أعتقد بوجوده. وأما أنه «لم يذكرها أحد من قبل» فإن هذه أبرز مهام الكاتب أو الصحفي، أن يدوّن ما لم تتم كتابته من قبل!! وأخيراً فإن هذه الرواية مؤكدة عندي من مصدر موثوق لصيق بالموضوع.

 

الأسد «الوفي»:

أثارت هذه النقطة استهجاناً أوسع. قلت إن حافظ الأسد لم ينس لآل أباظة «معروفهم» فحفظ لهم مكانتهم وميزاتهم. تستنكر سارة أن أصف الأسد بالوفاء وهو الذي طالما «تنكر لرفاق دربه الذين أوصلوه للحكم وتخلص منهم واحداً تلو الآخر».

في الحقيقة، يحتاج الدكتاتور «الناجح» إلى خصلة «الوفاء» أكثر من سواه من الحكام! يحدد القانون في الديمقراطيات صلاحيات الرئيس وسواه من المسؤولين ويرسم حدودها، ويرث الملك ولاء البلاط والرعية بحكم الولادة وولاية العهد، أما الدكتاتور فيحتاج إلى بناء الثقة بينه وبين عشرات الأشخاص الأقوياء من «رجاله» ممن سيمسكون لصالحه مفاصل البلاد. يجب أن يتبادل معهم الثقة، لا سيما في نظام عصبوي مزدحم بالأسرار الأمنية والعسكرية والمالية، وإلا خانوه. لا يُضبط الناس بالمراقبة اللصيقة فقط، رغم وجودها.

يحتاج أي دكتاتور يطمح إلى حكم مستدام أن يُشعر أركانه بالأمان طالما لم يمسّوا محظوراته

يسمَّى ما يبديه رجال الدكتاتور في هذه الحالة «ولاء»، لكن يجب أن تقابله ثقة بأنه لن يتخلى عنهم إلا إذا تجاوزوا خطوطاً حمراء محددة كسلطته وعظمة شخصه. يحتاج أي دكتاتور يطمح إلى حكم مستدام أن يُشعر أركانه بالأمان طالما لم يمسّوا محظوراته، كما يجب أن يحسوا بهيبتها اللاسعة إن فكروا بغير ذلك. ليس هذا فحسب، بل حتى على هؤلاء أن يسعوا لطمأنة رجالهم الخاصين. فلكي يمسك علي دوبا الاستخبارات العسكرية بقوة يجب أن يشعر ضباطه أنه لن يتخلى عنهم في حال الصدام مع جهة أخرى. إن العصابات المنظمة المستقرة، كالمافيا، تحتاج إلى هذا، لا الأنظمة الدكتاتورية فقط. وكذلك الميليشيا التي تبنى على الباطنية والسرية والأمنية. ومن هنا يمكن تفسير تسمية حزب الله كتلته النيابية «الوفاء للمقاومة»، وولاءه الدموي والمصلحي لنظام الأسد باسم «الوفاء لسورية»، وتأبينه كبار القتلة الذين سقطوا في تفجير خلية الأزمة بمهرجان «الوفاء للقادة الشهداء».

موضوع حديثنا ليس «الوفاء» بالمعنى الأخلاقي، بل بوصفه جزءاً من آلية معقدة لممارسة السلطة. بدءاً من الاستمتاع بتبني رفاق الشباب عبر مظاريف شهرية لرواتب من القصر، وفرز سيارتين وبضعة جنود، وصولاً إلى استخدام أوسع لهؤلاء إن كانوا مفيدين للحكم في قطاعات معينة. وقد أوضحتُ بجلاء دور آل أباظة، ولا سيما وليد، في ضبط الملف الشركسي.

يتعلق الأمر كله بالسلطة، إذاً، سواء أكان «الوفاء» فاتراً لمجرد أن يشعر الدكتاتور بلذة ممارستها وبأنه «المعطي المانع»، أو حاراً في حال كان المتلقي من أعمدة الحكم. أما «الغدر» ففي السياق نفسه، وسيلة للوصول إلى السلطة أو للحفاظ عليها. لا أخلاق ثابتة في هذا الملف، إيجابية كانت أم سلبية. سلوك الدكتاتور وظيفي. لنقرأ كتاب «الأمير».

 

الأديغا خابزا:

قلت إن قانون الأخلاق الشركسي هذا، المتداول شفوياً والحاكم عرفاً، يتضمن الولاء للسيد، انسجاماً مع شخصية المحارب التي يجب أن تتسم بالشجاعة والإخلاص والبعد عن أي موقف سياسي خاص. وقالت سارة إن الأديغا خابزا مجرد نصائح في مكارم الأخلاق والتهذيب واحترام الكبير. حسناً. هذا نقاش داخلي يجدر بالشركس أن يطرحوه علناً وألا يكتفوا بالتعريفات الفلكلورية على الإنترنت للأديغا خابزا.

ربما أكون بالغت في تقدير عمقها وسطوتها ومدى تأثيرها حالياً، لكني استشرت في المقال أصدقاء شركس، قبل نشره، ولم يعترضوا. على كل حال فإن معرفتنا ببعضنا كجماعات يجب أن تظل قيد المدارسة الدائمة، الشفافة، غير الهجومية ولا الدفاعية.

 

ساموراي الغرب:

كتبت، معجباً، أن محاضراً أميركياً قارب الشخصية الشركسية بتشبيهها بالساموراي الياباني. لم أذكر اسمه بسبب عدم ضرورته في مقال يعج بالأسماء والوقائع. بحثت سارة عن القصة فلم تجد شيئاً. وتذكرت، أثناء ذلك، «الدراسات البريطانية» المزعومة التي تثبت كذا وتنفي كذا! من أقصده هو Jonty Yamisha. شركسي مولود في الولايات المتحدة لأب هاجر من سوريا وأم من فلسطين، تعلم لغة أهله في عمر متأخر وصار مدرّساً لها، وعاد بقوة وعاطفية إلى تراثه القومي ليتأمله. أعتقد أن اقتراحه مفهوم «ساموراي الغرب» خلاق ومعبّر، يجدر التفكير فيه ومناقشته بعقل وقلب منفتحين.

 

لكل وليده:

تصل الكاتبة أخيراً إلى غايتها، وهي ما عنونت به مقالها أصلاً: إن كان لدى الشركس وليد أباظة فلدى العرب وليد المعلم! وقد خان كلا الرجلين «مكارم الأخلاق» التي يتحلى بها الشعبان، الشركسي والعربي، وهما لا يعبران إلا عن نفسيهما... إلخ.

تنبني هذه المقاربة على أرضية من الشك في النوايا والبحث بين السطور وترقب العداء من أي تناول لإحدى الشخصيات السورية، وكذلك على تطييب الخواطر والتكاذب بين الجماعات الأهلية «الكريمة» في البلاد. للأسف فإنه في ظل غياب دولة المواطنة تظل الجماعات هي محدد الهويات الأبرز عندنا، سواء أكانت طائفية أو قومية أو عشائرية أو مناطقية. هذه حقيقة لا ينفع تجاهلها كما لا يمكن إطلاقها بالمقابل. فهي تفيد في التحليل، بهذا القدر أو ذاك، دون أن تكون محدداً وحيداً للشخصية المدروسة، أو أن هذه الأخيرة نموذج شامل لأبناء جماعتها. كل هذه المسائل نسبية ومتغيرة ويجب أن تُدرس بحذر وضمير.

هدفنا جميعاً، عند الكتابة، يجب أن يكون الإسهام في بناء معرفة علمية دقيقة عن سوريا، تتكامل بجهود الجميع، تتطور وتُدقق باستمرار، دون حساسيات ولا تشنج ولا رضوض في الأنا الفردية والجمعية. أما النيل من الجماعات أو الدفاع عنها فهو هدف بخس. وكذلك التنابز بالولدان غير المخلدين!

كلمات مفتاحية