عنصرية لبنانية؟... عنجهية سورية!

2018.04.29 | 19:38 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تزاحمت صفحات التواصل الاجتماعي على نشر أغنية بثتها قناة «الجديد» اللبنانية، ضمن برنامج كوميدي، تتناول اللاجئين السوريين. رأى معظم المشاهدين أن الأغنية حلقة أخرى من مسلسل العنصرية اللبنانية، ما استدعى رداً غنائياً عليها أنتجته قناة «أورينت» السورية المعارضة، لحقه رد غنائي آخر قدّمه محمود الحمش، اليوتيوب الذي تتبناه قناة «سما» السورية الموالية.

لم يكن من المفترض أن تعيش الأغنية اللبنانية أكثر من أسبوع، لولا الضجة التي أثارتها، والتي فتحت للأغنيتين اللاحقتين باب الرواج على ضفتي الجمهور السوري، المعارض والموالي، دون تداخل تقريباً. ولكن الحديث عن هذه الأغاني، الخفيفة والعارضة، فرصة للحفر أعمق نحو ما هو راسخ ومستمر.

تعلن الأغنية اللبنانية عن رسالتها من عنوانها «نحنا صرنا المغتربين»، لتتحدث عن الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين الذين صاروا «الأكثرية»، وعن إقامتهم في ملاحق بالكاد تصلح للسكن، حيث يتوالدون بكثرة منتظرين استقرار بلادهم، وعن وجودهم الملحوظ في المهن الدنيا. لتختم بتخصيص سريع للسوريين المقصودين بأنهم من «دير الزور». وهو تخصيص لا يستند إلى مرتكز جدي من واقع اللجوء السوري في لبنان، الذي يشغل الديريون منه موقع أقلية مجهرية، بقدر ما يريد أن يحيل إلى وصف «الشوايا» الشهير المضمر، المفترض به، ربما، أن يستجر التعاطف مع الأغنية (والشكوى)، حتى من قطاعات من السوريين أبناء المدن الكبرى والأرياف المتحضرة، وهو أمر معروف ولا يستطيع السوريون التكتم عليه.

بحدودها هذه، أتاحت الأغنية لمعدّ البرنامج أن يدافع بأنه ينقل لسان حال الشارع اللبناني الذي يشتكي من أعداد السوريين التي فاقت قدرة البلد على الاحتمال، وأن الأغنية لم تدعُ إلى طردهم أو الاعتداء عليهم، وأنها بعيدة عن التجييش والإساءة. غير أن ندرة من المشاهدين اهتمت بكلامه، وظل وصف الأغنية بالعنصرية شائعاً.

من البداية اختار رد قناة «أورينت» أن ينافس اللبنانيين في مرتكز تعاليهم، وهو التحضر، حين سمّى أغنيته البديلة «رد الأكابرية على أغنية الجديد العنصرية»، موجّهاً إلى خصومه تهمة كبرى منذ الكلمات الأولى حين وصفهم «بالنازيين»! ليعود إلى تلطيف اللهجة حين يصف المغنية اللبنانية بأنها «حلوة»، لافتاً انتباهها إلى أن جارها المفترض أنه أجّر بيته للعائلة الديرية قد «لبّى نصر الله بلهفة/ وركض ع سوريا// وحلف ما يترك شقفة/ من أرضي الشامية// إلا ويهجّر أهلا/ ويرفع علمه فيّا»، ويكمل «مو ذنبه السوري الهربان/ من قصف الأسدية// يلجأ لجاره لبنان// باسم الإنسانية». لتختم المغنية السورية بالعبارة ذات السلالة الأربعة عشرة آذارية «فاجأناكن مو؟»، محددة حلفاءها اللبنانيين.

في حين اختار الحمش (حَمَشَ القومَ أي هيّجهم وأغضبهم)، من فضاء النظام، أن يعنون رده بشكل يليق بالسياسة أو بالحرب أكثر، حين سمّاه «الرد السوري على المهزلة اللبنانية». هكذا إذاً، ومنذ البداية، الرد سوريٌّ شاملٌ وبأل التعريف، على مهزلةٍ لبنانية متضافرة! ولكن التفاصيل في المتن أكثر دقة وأقل غلواء، حين تشرح للمغنية اللبنانية أنه «لو بس ما عندِك أحزاب/ عم تخرب سورية// وعم بتمول الإرهاب/ وهي والسعودية// ما كنا طلعنا من هون/ أقسم ب عينيّا»، مستدركاً «عنّا إخوة بلبنان/ مو متلك يا حيّة»، مذكّراً «هالعجيّة»، كالعادة، بالوقفة الأخوية للسوريين مع اللبنانيين أثناء حرب تموز. ليختم، بالتناوب مع عازفي فرقة طرابيش Style، الذكور بالكامل، بتلميحات متحرشين من نوع «يا دللي»، «لا تلقني بتشقني»، «قيم إيدك»!

تشترك الأغنيتان السوريتان في أنهما تعيدان المشكلة إلى جذرها السياسي، وهو سياقها الصحيح، في حين يفضّل لبنانيون كثيرون، ومنظمات دولية، النظر إليها بوصفها أزمة إنسانية فقط. 

بداية، تشترك الأغنيتان السوريتان في أنهما تعيدان المشكلة إلى جذرها السياسي، وهو سياقها الصحيح، في حين يفضّل لبنانيون كثيرون، ومنظمات دولية، النظر إليها بوصفها أزمة إنسانية فقط. أما بعد ذلك فتفترق الأغنيتان في كل شيء، حين تحددان حلفاء كل طرفٍ وخصومه في لبنان، وفي الأرضية الإنسانية والأخلاقية التي ترتكز إليها كل منهما، وطبعاً في تحليل الحالة السورية، غير أنهما تلتقيان من جديد في وصف الأغنية اللبنانية بالعنصرية. وهو وصف لا يستطيع المرء أن يوافق عليه بأمانة، لا سيما وأنه ناتج عن حساسية دونية متورمة ومفرطة الشكوى. لا يعني هذا عدم وجود عنصرية لبنانية بإطلاق، فالأدلة عليها كثيرة، ولكن هذه الأغاني مناسبة لتجاوز محتواها إلى خطاب الجمهور السوري الواسع الذي تلقاها بانفعال متوتر، معبّراً عن نظرة إلى لبنان واللبنانيين تستحق التحليل.

فمنذ التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976، وحتى انتهائه في 2005، اصطدم السوريون؛ سياسيين بعثيين من أصول فلاحية، وضباطاً أجلافاً فقراء في «الجيش العقائدي»، وجنوداً لم يكملوا دراستهم؛ بتعالٍ لجأ إليه أهل البلد للثأر من هذه القوة الهمجية التي تناوبوا في قتالها والتحالف معها دون أن ينسوا تذكيرها، على كل حال، بتخلفها بالمقارنة مع لبنان، وحفاظاً عليه من أن تبتلعه الأخت الكبرى الشرهة.

ومنذ بدا هذا التنافر اتخذ السوريون، ممن احتكوا بالتعالي اللبناني، موقفاً دفاعياً تمثل في عنجهية مضادة، تكوّنت عناصرها أساساً من:

ـ التكبر الجغرافي؛ فمساحة لبنان لا تتجاوز مساحة مدينة سورية مع أريافها. بل هو «محافظة سورية تاريخياً»، فصلتها حدود سايكس بيكو. ولا شك أن ما صنعه الاستعمار يجب أن يزول لصالح «ما صنعه الله» بين البلدين، وفق تعبير حافظ الأسد الطامح إلى قضم لبنان فعلياً أو تجويفه وإلحاقه عملياً.

ـ الافتخار بالتقليدية والأصالة في وجه الحداثة والتغريب، بالثقل مقابل الخفة، بالتصنيع الاشتراكي في وجه اقتصاد الترانزيت، بالتعريب البعثي بدل اللغات الأجنبية، بالجامع الأموي ضد كازينو لبنان، «بالشرف» مقابل «الانفتاح» الذي لم يخلُ ذكره من تعريض، بالتجهم الرسمي الرصين مقارنة بالإعلام «المنفلش»، بالرؤية الأحادية الصارمة مقابل التعددية المدوّخة التي لم تفضِ إلا إلى برامج التوك شو والحرب الأهلية!

ـ التباهي بالخشونة والفظاظة، بالمقارنة مع ما ينسب إلى اللبنانيين من نعومة تصل إلى «الخنوثة». وهنا يستثني جمهور النظام، وكل السوريين قبل 2011، «رجال المقاومة» وربما عموم الشيعة من هذه التهمة. ويؤشر هذا إلى النظرة إلى لبنان وإلى حزب الله «وشعبه»، بوصفهما بنيتين متداخلتين ومتضايفتين ومتعايشتين، لا بنية واحدة.

كوّنت هذه العناصر الأساسية، وسواها، عنجهيةً ريفية فجّة ومتصلبة وخاوية المضمون وسمت معظم السوريين عند تعاملهم مع لبنان واللبنانيين. وكان أصل تشكّلها هو التباين الذي حصل في طريق البلدين ونظامهما وسياساتهما وطبيعة نخبهما منذ استيلاء ضباط الحزب على السلطة في سورية عام 1963، وخاصة بعد التدخل العسكري في لبنان، الذي تمر هذه الأيام ذكرى انتهائه دون أن تنتهي دوافعه في نفوس كثير من السوريين الذين اعتبروا أن «جيشنا» هو من أُخرج من لبنان وقتها، شاعرين بجرح نرجسي وطني لأن بيروت استطاعت أخيراً أن تتخلص من هذا الزوج السمج الذي ارتبط بها بالإكراه... فيا لها من «غانية» ناكرة الجميل إذاً!

بنى النظام هذه العلاقة الشوهاء عبر عقود، وهو يحتفظ بها في نخاعه الشوكي، مستذكراً بتحسرٍ عهدها الذهبي عندما كان اللبنانيون «تحت البوط». لكن المؤسف أنها ليست بعيدة عن جمهور الثورة الذي عبّر، بمناسبة هذه الحرب الغنائية وفي مناسبات مشابهة، عن ارتكاس سهل وسريع إلى خطاب النظام الذي يقمعه؛ من احتقار لبنان ككيان ورموز، والاستخفاف باللبنانيين، والغمز المشين من قناة اللبنانيات. دون أن يعي أنه بهذا يستند بالضبط إلى تراث غازي كنعان ورستم غزالي وسواهم من ضباط الأمن، بدل استلهام التلازم الضروري بين «ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان»، كما هو عنوان أحد أشهر كتب سمير قصير.

كلمات مفتاحية