عندما يفقد فنانٌ كلَّ مخيّلة من أجل نظام قاتل

2019.04.09 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

-1-

المشهد مُثير لضحكٍ مُفعم بسخرية ومرارة. إذْ عندما يفقد المرء قدرته على الابتكار، إنْ يكن فنانًا أصيلاً، يُصبح كلُّ فعلٍ له تافهًا، إنْ لم يكن الفعلُ غبيًا. أما إنْ لم يكن الفنان أصيلاً، فالمسألة عادية، والمشهد يُثير ضحكًا وسخرية لا أكثر. أما المرارة، فمتأتية من سلوك هذا الفنان نفسه إزاء مسائل عديدة، بدءًا من سلوكه إزاء زميل مهنة له فضلٌ كبيرٌ عليه، وصولاً إلى التعامي عمّا يحدث ضد شعبٍ ينتمي الفنان إليه، وهو (الشعب) الذي يمنحه شرعية وجود، مع أن النظام ـ الذي يخضع الفنان له ـ يمنحه تسلّطًا على الشعب، والتسلّط معنوي أيضًا. والتعامي، إذْ يكن مُسيئًا بأي شكلٍ من الأشكال، يُصبح أخطر حين يتمثّل بصمتٍ مشبوه للفنان إزاء ارتكابات جُرميّة ضد بلدٍ وشعب وتاريخ، وبالتزام أعمى لنظامٍ وممارساته، وبتغاضٍ مخيف عن حقّ شعب، وسلميّة حراك مواطنين منه، ومدنيّته.

المشهد فاقع بسذاجته، وباضمحلال كلّ مخيّلة يُفترَض بعاملٍ في الفنّ أن يمتلك شيئًا منها، خصوصًا بعد هذه الأعوام كلّها من العمل والتسلّط والاحتيال، وللتسلّط والاحتيال متطلبّات مرتبطة بإعمال المخيّلة والابتكار أيضًا. لكن الفنان هذا ـ إذْ يُتقن فنّ الخديعة بحقّ مُساهمين في شهرته ورفعته، قبل تحوّله إلى بوق لسلطة تستخدمه لإيهام كثيرين بحرية رأي وتعبير، بينما تمتلئ سجونها وقبورها (وبعض المنافي أيضًا) بمن يمارس فعليًا حقّه في حرية رأي وتعبير ـ غير مُتمكّن من إعمال مخيّلة، تبدو اليوم، أكثر من أي وقتٍ ماضٍ، منعدمة الوجود. فالمشهد، المُثير لضحكٍ وسخرية، يؤكّد مجدّدًا أن التبعية العمياء لنظام يُقاتل شعبه ويُدمِّر بلده ويُغيّب تاريخه وحاضره، وإنْ "تُلطَّف" التبعية بادّعاءِ وطنيّةٍ ممجوجةٍ ومخادعة، خطرة للغاية، خصوصًا مع تفوّق النظام في محاربة شعبه، بجزئيه المُعارض له والتابع إليه فهو غير معنيّ بأحد منهما، وتغييب أبناء كثيرين منه، وفي تخريب بلدٍ، وتفكيك اجتماع، ونهب ثورات، وإفلات قتلة لمُطاردة من يتجرّأ على مواجهة النظام سلميًا ومدنيًا وعفويًا.

المشهد رديء. والفنان نفسه لن يكون وحيدًا في ابتكار رداءةَ دفاعٍ ساذجٍ عن نظامٍ بحجّة الانتماء إلى وطن يغتاله النظام نفسه. فكثيرون من زملاء مهنته يتباهون بخضوعٍ أعمى للنظام نفسه، الذي يُثبِتُ، يومًا تلو آخر، أنه العدوّ الأخطر لشعبٍ واجتماعٍ وبلدٍ وذاكرة وتاريخ وحضارة. والغطاء، الذي يمنحه فنانون كهؤلاء لنظام كهذا، لن يكون أخفّ قسوة وأذيّةً من فعلٍ جُرمي لنظام يتبيّن، يومًا تلو آخر، مدى براعته

المشهد عادي شكلاً وتافهٌ مضمونًا: دريد لحّام يوقّع على ورقةٍ، يوحي أنها رسمية، تُفيد بأنه هو، دريد لحّام، يمنحُ المكسيك ولايةً أميركية

في سحق شعب وتدمير بلد، بينما العدو الفعلي رابضٌ على حدوده، ومحتل جزءًا من أرضه، وهو صامت عن هذا الواقع، وقابل به، وخانع لمن يصنعه يوميًا، ولمن يدعم صانِعَه يوميًا.

 

-2-

والمشهد عادي شكلاً وتافهٌ مضمونًا: دريد لحّام يوقّع على ورقةٍ، يوحي أنها رسمية، تُفيد بأنه هو، دريد لحّام، يمنحُ المكسيك ولايةً أميركية، ردّا على الاعتراف الرسمي للرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على المرتفعات المحتلّة للجولان (25 مارس/ آذار 2019). وهذا أسخف من ردّ بشّار الجعفري، سفير نظام الأسد في الأمم المتحدّة، الذي يُلقي خطابًا، مضمونُه غير متبدّل منذ زمنٍ بعيد، ولغته محافِظة على ثقلٍ لا تُحتَمَل تفاهته، وهو غير ذي فائدة، بينما سيّده عاجزٌ عن فعل شيءٍ إزاء فضيحة إعادة جثمان الجندي الإسرائيلي زخريا باومل إلى عائلته وجيشه وبلده (3 أبريل/ نيسان 2019)، عشية انتخابات إسرائيلية (9 أبريل/ نيسان 2019)، يُريد بنيامين نتانياهو الفوز بها بأي ثمن، فإذا بالحليف الروسي لبشّار الأسد يُساهم في ارتفاع نسبة الفوز بفعلته هذه، والأسد الابن صامتٌ وعاجزٌ ومُحيَّدٌ، وفنانون تابعون له يكتفون بسذاجة ردٍّ مُسطّح، يظنّون أنه ساخِرٌ ونافع، فإذا به غير نافع وغير ساخر، إذْ يدلّ على بهتانِ تفكيرٍ، وانعدام براعة.

الطعنات الموجَّهة ضد بشّار الأسد متأتية من حلفاء يُفترَض بهم حمايته (روسيا مثلاً)، أو من أعداءٍ يُفترَض به مواجهتهم بوسائل لها مصداقية وفعالية، وهو (بشّار الأسد) منفضٌّ عن مواجهتهم أصلاً، ومفتَقِدٌ لمصداقية وفعالية في منهج عمله (الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، فالصراع، متنوّع الأشكال، مع العدوّ الإسرائيلي، مُعطَّل منذ قرار الكنيست الإسرائيلي، في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1981، ضمّ المرتفعات المحتلة تلك، "وتطبيق القوانين الإسرائيلية عليها"، والأسد الأب صامتٌ يؤجّل ردّه على مسالك كهذه إلى "وقت مناسب"، والجميع ينتظرون الوقت المناسب... منذ ألف قرن وإلى ألف حفيد). بينما المتغاضون، وبينهم "فنانون"، عن بطشٍ وعنفٍ يُمارسهما ضد شعبٍ، هم (المتغاضون والفنانون) منتمون إليه، غير متمكّنين من ابتكار شيء واحد فقط يعكس بعض مخيّلة أو عبقرية أو إبداع في تحدّي دول وأنظمة، تتصارع في الأمكنة كلّها، وتتحالف ـ من أجل مصالح متبادلة ـ على حساب حليف أو تابع.

والمشهد، إذْ يكون مُسطّحًا وتافهًا، يأتي عشية الذكرى الثامنة لبدء الثورة السورية اليتيمة، المبتدئة ـ مدنيًّا وعفويًا وسلميًا ـ في 18 مارس/ آذار 2011. وهذا غير مرتبط بصدفة، بل بوقائع حيّة تهدف إلى رفع مستوى التحطيم اللاحق بها، رغم أنها تترنّح ـ منذ أعوام عديدة ـ بسبب حربٍ أسدية، وفلتان إرهابي متشدّد، لبشّار الأسد دور في تفلّته، بعد إطلاق سراح إرهابيين من سجونه، بغية تشويه الثورة وضربها واغتيالها.

 

-3-

لكن مشهد دريد لحّام غير متفرّد في تقديم صورة ساذجة عن معنى التبعية لسلطة نظام كهذا. فمساء 6 أبريل/ نيسان 2019، وبعد فوزه بجائزة "موريكس دور" (هذه جوائز تُطرَح تساؤلات عن سويّتها ومصداقيّتها) كأفضل ممثل عربي، عن دوره في المسلسل التلفزيوني "طريق" لرشا شربتجي، يُقحِم السوري عابد فهد نظامه في احتفال فني، بإهدائه الجائزة إلى الجيشين السوري واللبناني، وهذا الأخير، بحسب قوله، يقف إلى جانب سورية "وقفة عزّ". وإذْ يُمكن فهم إهداء جائزته إلى بلده سورية، وإلى سوريين يُضحّون ويقفون وقفة واحدة (رغم الكمّ الهائل من الالتباسات التي تتضّمنها إهداءات كهذه وتعابير كهذه)، ناهيك عن إهداء الجائزة

لن يختلف عابد فهد عن كثيرين ممن يُجاهرون بتقديس جزمة عسكرية أو دينية، رافعين إياها فوق رؤوسهم

نفسها إلى زوجته وأولاده (وهذا خارج النقاش لحميميّته)، إلاّ أن ضمّ الجيش اللبناني إلى من يُهديهم الجائزة مُثير للتساؤل عن المغزى والفعالية والهدف، بينما الإهداء إلى الجيش السوري يعني إقرارًا، ولو ضمنيًا، بـ"صوابية" أفعاله ضد شعبه وبلده وناسه.

بهذا، لن يختلف عابد فهد عن كثيرين ممن يُجاهرون بتقديس جزمة عسكرية أو دينية، رافعين إياها فوق رؤوسهم. بهذا، يتعامى عابد فهد عن حربٍ يشنّها بشّار الأسد عبر جيشه النظامي، بالتعاون مع حلفاء مختلفين، بينهم من يوصف بـ"عدو إرهابيّ"، ضدّ أبرياء، وضدّ كلّ من يتجرّأ على فضح الجريمة بحقّ مدنيين، فهو غير مُتردِّد عن "اغتيال" الصحافية والمُراسلة الحربية الأميركية ماري كولفن مثلاً، بسبب تصريحٍ لها ـ في لحظة إنسانية رائعة رغم قسوة اللحظة وبشاعة الواقع ـ أنها غير شاهدة أهوالاً كتلك التي تحدث في سورية، فهذه الأهوال هي "الأبشع بين الحروب كلّها التي غطيّتها" (مقابلة مع "سي. أن. أن."، مباشرة من مبنى خاص بمراسلين أجانب في "حيّ بابا عمرو" في حمص)، ما يؤدّي إلى تسريع تنفيذ خطّة قصفِ المبنى برمّته، في 22 فبراير/ شباط 2012، بهدف إسكات كلّ صوتٍ يقول واقعًا يعيشه صاحب الصوت ويُدركه ويعيش قسوته.

وإذْ يوصف مَشهَدَا دريد لحّام وعابد فهد بالبائِسَين، فبماذا يُمكن وصف مشهد محامين سوريين يتقدّمون بدعوى قضائية ضد دونالد ترامب، بعد إعلانه الرسمي منح السيادة الإسرائيلية على المرتفعات المحتلّة للجولان؟ أيسخر المرء، أو يضحك، أو يغضّ الطرف عن ضحالة تصرّف وغباء سلوك؟ أيُعقل أن أربعة محامين، بينهم سالم كريم (رئيس فرع نقابة المحامين في حلب)، يتّهمون ترامب بـ"النيل من هيبة الدولة"، و"الاعتداء على سيادة الدولة السورية وسلخ أجزاء منها"، و"التدخّل في الشؤون الداخلية"، و"منع الدولة من ممارسة سلطاتها ووظائفها المستمدة من الدستور" (4 ابريل/ نيسان 2019)؟ ألا تتوافق اتهامات كهذه مع سلوك نظام الأسد، أبًا وابنًا، إزاء لبنان والعراق وفلسطين وغيرها؟ بل إزاء سورية، أولاً وأساسًا؟

 

-4-

كم هو ضحلٌ تفكير مُوالين لبشّار الأسد، في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي كلّ مكانٍ آخر. فهو تفكير ناتجٌ من جهلٍ وقلّة إدراك وغياب مخيّلة، تُضاف إليها قوّة بطش وتنكيل وتغييب، وهذه كلّها يتمتّع بها نظامٌ يفقدُ تَمكّنه من إحكام قبضته على مسار أموره بعد ثمانية أعوام من القتل والتخريب والتغييب والتهجير، لأن حلفاء له يتجاوزونه بكلّ شيء، فإذا به يلجأ إلى مُوالين يملكون شتائم وتقريعًا وتهديدات وصراخًا، وهذه كلّها غير طائلة وغير نافعةٍ، رغم أنها تُهدِّد وتؤذي من لديه شرعية مواجهة نظام كهذا، ومصداقية قول وتعبير.