عندما يصبح الموت "رحمة" في معتقلات "الأسد"

2018.09.29 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أذكر تماماً ذلك اليوم الذي استيقظت فيه على حفلة إهانات قام بها أحد السجانين بالقرب من الغرفة التي قضيت فيها 23 يوماً، وأذكر تماماً أنه كان اليوم الثالث والعشرين من أيام اعتقالي، بسبب تلك الحفلة، التي لا تزال تفاصيلها وإن لم تكن مرئية، عالقة في ذهني.

استيقظت يومها على صوت السجان يصرخ على حوالي عشر شباب، بحسب ما بدا لي تبعاً للأصوات، يطلب منهم أن يديروا وجوههم للحائط، ويتبعها بأوامر قد لا يصدقها منطق، لكنها حصلت بالفعل، وسمعتها بأذنيّ التي اعتادت خلال الأيام الماضية على سماع أصوات التعذيب.

طلب السجان من الشبان مبدئياً، أت يقلّدوا وبصوت واحد، صوت عواء الكلاب، ولأن الرفض يبدو مستحيلاً في تلك اللحظات، وقد يؤدي لإعاقة بسبب الضرب، لم يكن منهم إلا أن فعلوها، في وقت كان فيه السجّان، يُرضي "سكرته".

لكن، بدا أن أصوات عوائهم لم ترضه، فطلب منهم المواء كالقطط، إلّا أن ذلك لم يرضه أيضاً، فقرر أن يجلب الشباب واحداً تلو الآخر، ويطلب من كل شخص الغناء!، والأغنية التي كان يطلبها منهم هي أغنية البرنامج الكرتوني "السنافر" فمن لا يعرفها، يحق له أن يغني أغنية لفيروز، ولا يمكن هنا وصف الصوت الحانق للمعتقل، وهو يغني، وهو يعرف تماماً أن هناك من يسمعه في الغرف المجاورة، أمّا من يرفض، وطبعاً ليس بكلمة لا، بل بالسكوت، فنصيبه ضربة مميتة على الظهر بعد أن يطلب السجان منه الانحناء، وأقول مميتة، لأنه ذاته قال لنا ذلك في إحدى المرات، وذلك إن قرر فعلاً أن ينفذها "على أصولها".

في مكان ما تحت الأرض يمكن لأشخاص يشبهوننا بالشكل الإبداع في رسم خرائط على أجساد المعتقلين وأرواحهم

انتهت حفلة الإهانات تلك، بعدد من "الأدعية" التي كان يتلوها السجان على مسامع المعتقلين، وهم مجبرون على قول "آمين" بعد كل دعاء، وكانت الأدعية من نوع "الله يقصّر عماركن، الله ييتم ولادكن".

في مكان ما تحت الأرض، يمكن لأشخاص يشبهوننا بالشكل، الإبداع في رسم خرائط على أجساد المعتقلين وأرواحهم، قد يُغضب أحدهم أن من يقابله شخص مثقف، متعلم، بينما هو فلم يعرف المدرسة، فبالتالي، هنا تتاح له فرصة إغراق المقتعل بوابل من ناتج عقدة النقص التي تجتاحه، وحصل هذا على مسمعي عندما سخر السجان من عِلم أحد الأطباء في الداخل، معتبراً أن العِلم لم يؤدبه "والمتعلم بيطلع ضد رئيسه؟؟

يبدو إنك تعلمت بس باقيلك التأديب".

التعذيب الحقيقي هو لحظات يجبر فيها المرء على الاختيار بين أمرين أحلاهما مرٌ

هي قصص قد تبدو بسيطة أمام حوادث أخرى، لكنها بالنسبة للكثير من المعتقلين أقسى من الضرب، وإن التعذيب الحقيقي هو لحظات يجبر فيها المرء على الاختيار بين أمرين أحلاهما مرٌ، فإما التعذيب النفسي والإهانة، أو الجسدي، اللحظات التي تمر ساعات على من يعيشها، والتي يتمنى فيها الموت حقاً، إذ يغدو رحمة لطالبه، وأثبت لي أنين أحد المعتقلين ذلك عندما طلبَ الموت من الله، بعد أن غاب السجان لحظات.

بات لا يخفى على أحد قساوة المشهد داخل تلك أقبية الموت، هي مسلخ بشري حقاً، وهي في الوقت ذاته مكان لن يستطيع تخيّله إلّا من عاش فيه، مهما سمع المُتخيّل عنه.

ولأن لا مكان للرحمة بين الوحوش البشرية، التي كانت تستخدم المعتقلين كأداة تسلية، بعيداً عن التعذيب خلال التحقيق، يصبح للموت معنىً آخر، فأنت هناك، ميتٌ روحياً، تعيش تحت الأرض في مقابر مجهزة على شكل زنزانات، أنت هناك مدفون، ولكن بنبض.

ليصبح الموت الحقيقي، الذي يهابه الجميع "رحمة".

كلمات مفتاحية