عندما سقطت "القدس"!

2019.06.27 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أتيحت لي الفرصة أن أحضر عرض فيلم المخرجة الموثقة وعد الخطيب "من أجل سما" في أحد مسارح العروض في واشنطن حيث عرض الفيلم ضمن مهرجان الأفلام الوثائقية في واشنطن، وكان الفيلم قد فاز بجائزة هامة في مهرجان كان للسينما في واشنطن.

قصة الفيلم عبارة عن توثيق مؤلم للحظات الحصار على حلب عبر حوار بين المخرجة وابنتها سما التي ولدت تحت الحصار وأتمت عامها الأول هناك، الفيلم عبارة عن 95 دقيقة من الألم المتواصل الذي يشعرك كسوري بأن ما تشاهده ليس فيلما وثائقيا عن بلد آخر أو أناس آخرين أو زمن ماض رحل وغرب، الفيلم يوثق لحظات حقيقية مر بها وطنك سوريا من سنة أو أكثر وما زالت هذه اللحظات تتوالى من دون نهاية بسبب بقاء الدكتاتور الأسد في مكانه إلى اليوم، كما أن الفيلم يدخلك إلى عالم الحصار الذي قرأت عنه الكثير لكنه يكشف معنى الحياة اليومية ليس فقط تحت الحصار وإنما تحت القصف اليومي الذي لم يتوقف يوما، عذاب الدمار الذي يحيط بك، عذاب الموت

يوثق الفيلم لحظات العمل داخل المشفى الميداني لحظة بلحظة، حيث يدخل الأطفال مغمًى عليهم مدمين تماماً ويخرجون محمولين على الأيدي بعد أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة

الذي يفاجئك بكل لحظة، حيث زوج المخرجة وعد هو الطبيب حمزة الخطيب الذي أسس المشفى الميداني في حلب المحاصرة وسمّاه "مشفى القدس"، إنه بطل الفيلم وبطل الحصار بلا منازع، يتملكه الأمل دوما بأن القادم أفضل، مع كل الصعاب والتحديات والدمار والموت الذي يحيط به ما زال مصرا على متابعة مهمته النبيلة حيث خرج كل الأطباء وترك كل المسعفين المدينة التاريخية لأنهم أصبحوا الهدف الدائم لقصف الأسد المستمر، فكما قالت وعد في الفيلم قصف المشافي في أيام الحصار يكسر الأمل لدى الناس ويملؤهم بالهزيمة والشعور باليأس لأنهم يعرفون أنه عند المرض أو الألم ليس لهم أمل بالنجاة لأنه ليس هناك سبل للنجاة أو الحياة.

يوثق الفيلم لحظات العمل داخل المشفى الميداني لحظة بلحظة، حيث يدخل الأطفال مغمًى عليهم مدمين تماماً ويخرجون محمولين على الأيدي بعد أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة يصرخ فيهم ذووهم بأن يكفوا عن الموت وأن يعودوا للحياة لكن هيهات.

تصرخ تلك الأم المكلومة بوعد "لك ..صوري.." يحدوها الأمل أن التصوير ربما يحمل معجزة بحد ذاتها لإنقاذ طفلها، لكن للأسف تتعاقب ملايين الصور دون أن تغير من الحقيقة شيء حيث يستمر الأسد في ممارسة الإبادة بحق شعبه كما يرغب ويهوى حيث البراميل المتفجرة ولا يختلف عنه بوتين حيث تحولت القوة النارية على حلب في ديسمبر 2016 إلى شيء شبيه بالألعاب النارية من شدتها وكثافتها، لكنها تخفي وراءها حجم معاناة المدنيين القابعين خلف الحصار.

يدمر سلاح الجو الروسي المشفى الميداني الأول لكن حمزة وفي أقل من أسبوعين يفتتح مشفى آخر، وكلمة مشفى هنا تعبير مجازي بالكامل، حيث لا معدات

توثق الكاميرات الداخلية قصف مشفى القدس وتنتقل هذه الصور إلى مجلس الأمن لكنه الجواب المباشر من قبل روسيا والنظام السوري هو أن هذا المشفى كان تجمّعا للإرهابيين

ولا أطباء وإنما طلاب طب ومتطوعون في هذا المشفى الذي يخسر كوادره يوما بعد يوم، حيث مع القصف الأول قتل عدد من الأطباء الأبطال والممرضين لكن ما بقي لم يتردد لحظة واحدة في الانتقال إلى المشفى الجديد، يعرفون أنهم سيكون هدفا للقوات الروسية ولنظام الأسد لكنهم مسكونون بالتحدي وتجاوز الموت عبر فتح مشفى جديد.

توثق الكاميرات الداخلية قصف مشفى القدس وتنتقل هذه الصور إلى مجلس الأمن لكنه الجواب المباشر من قبل روسيا والنظام السوري هو أن هذا المشفى كان تجمّعا للإرهابيين، لم يكن ليكترث الأسد لحظة بالقانون الإنساني الدولي الذي يحرم استهداف المشافي أو النقاط الطبية، لكنها أصبحت هذه على رأس أولويات نظام الأسد لينزع من السوريين من تحت الحصار أي أمل بالحياة، بالنسبة له يجب قتل السوريين بأي طريقة وبأي وسيلة، لا يحق لكل إنسان سوري خالف أو عارض الأسد الحق بالحياة تطبيقا لاستراتيجية "الأسد أو نحرق البلد".

فيلم "من أجل سما" توثيق يومي مؤلم لهذه الاستراتيجية، الضحايا فيه هم أنبل السوريين الذين دافعوا عن الوطن بكل ما يملكون، والمجرمون فيه هم أولئك السوريين الذين لا يمتلكون من الوطنية الحد الأدنى للنظر في وجوههم بالمرآه أن قصف "القدس" كان يعني إنهاء الحياة الأخيرة لآلاف الأطفال تحت حصار مميت قرر الأسد فرضه من أجل سيطرته وتمكين سطوته.

كلمات مفتاحية