عمر "العذري" وكرستين "العربية"

2019.09.06 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ثمة قصة حب بسيطة تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، لم تتأخر كثيرا لتصير مادة متداولة. قصة الحب هذه، تعددت ألسن ناقليها، منهم من ينسبها إلى بطليها الشاب اليمني عمر محمد العمودي الذي قيل إنه كتب رسالة حب للإعلامية كرستين بيسري، والتي قيل أيضاً أنها ردت عليه بعد إعجابها برسالته، وآخرون يقولون إن عمر كتب الرسالة الأولى ولكن كرستين، لم ترد، وربما لم ترَ الرسالة.

قد يكون أحد ما اخترع قصة الحب تلك، قصة حب بين شاب هو الخبر وفتاة تنقل الخبر، قصة لا تكشف فقط عن مدى التصاق الخبر بالواقع أو بُعده عنه، بل تدلل على طريقة اهتمام الجمهور بالخبر، ومدى تصديقهم له، وربما هذا ما منح تلك الرسالة الخصوصية والانتشار.

القصة في محتواها العام وفي دلالاتها، تعكس واقع منطقتنا وبلداننا بعد عقد من الزمن التهبت خلاله طبيعتها الساكنة، وتغيرت خرائطها السياسية والاقتصادية والسكانية، وتغيرت مجتمعاتها، وكل هذا انعكس على شكل التعامل الإعلامي معها مما جعل من شاب بسيط موضع خبر عاجل على الشاشات، فقط لأنه يعيش تحت القصف ووسط الموت والجوع، وربما يصبح الشاب ذاته موضوع خبر لطيف يحمل في ثناياه قصة حب غريبة بين متابع لنشرات الأخبار والمذيعة التي تنقل أخبار الحرب التي تشن عليه، كما في هذه الحكاية.

وسط تلك الحالة تندفع موجة أسئلة، تبدأ ولا تنتهي من طراز: كيف يتابع الناس أخبارهم على الشاشات، كيف يتفاعلون مع تلك الأخبار، وما رأيهم بالسياسة والسياسيين الذين يتصدرون نشرات الأخبار؟

وسط تلك الحالة تندفع موجة أسئلة، تبدأ ولا تنتهي من طراز: كيف يتابع الناس أخبارهم على الشاشات، كيف يتفاعلون مع تلك الأخبار، وما رأيهم بالسياسة والسياسيين الذين يتصدرون نشرات الأخبار، ويتحدثون من المنافي عن معاناة الضحايا وآلامهم؟ ما مدى قناعتهم بما تسوّقه الشاشات؟ ومن أي الزوايا يلامسون وجه الحقيقة،؟ غير أن أجوبة الأسئلة المثارة، لا تستطيع تجاوز الخدعة الإعلامية التي تضمنتها قصة الحب بين شاب في عمق كارثة وفتاة جميلة بعمر الورد تطل من الشاشة الصغيرة، فينشغل الناس بها وينسون أو يتناسون الوقائع الصعبة والشديدة القسوة، التي تحيط بهم، وتستمر في تدميرهم، تماما كما يفعل عمر عندما يتابع الأخبار المتدفقة من شفتي كرستين، يهرب من سخونة الخبر ليختبئ في ظل الشامة التي تتوسط عضد المذيعة.

لعل أهم ما طرحت الحكاية هو مدى انكشاف الأوساط الإعلامية التي لم تعد توارب في أهدافها، ولا تخبىء أسرارها تحت الطاولات، بل باتت تلعب على المكشوف، حيث يساهم بعض الإعلام في تمييع قضايا الشعوب وتحويلها إلى أدوات سياسية، بينما تستمر التطورات المأساوية في القتل والدمار والتهجير في سوريا والعراق واليمن بلد الشاب عمر وغيرها.

ويساهم الإعلام في حصول ما يحصل أقله من حيث تغيير وظيفة القسم الأكبر منه، من نقل معاناة الشعوب وخلق رأي عام للدفاع عن حقوق الإنسان، إلى الاستثمار في معاناة البشر وخلق طرق جديدة للتعامل مع تلك البلدان وشعوبها وما صارت إليه من محن وكوارث. إذ بالإضافة إلى تجاهل بعض الأحداث وتجنب تغطية بعضها لسبب أو لآخر، يتم تناول أغلبها بعيداً عن الدقة والحيادية والموضوعية، مما يؤدي إلى تزوير الحقائق وخلق "حقائق" جديدة كما هو حال الخبر السوري الذي حصر مستقبل السوريين بين المتطرفين أولها تطرف نظام الأسد أو تطرف الجماعات الإرهابية من "داعش" والنصرة وأخواتها، وتغييب حقيقة أن السوريين جهدوا طوال السنوات التسع الماضية من أجل مستقبل أفضل لبلدهم، بحيث يقوم فيه نظام ديمقراطي يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.

الجانب الثاني فيما يقوم به الإعلام، وربما هو الجانب الذي كان أكثر وضوحاً في حكاية عمر وكرستين، هو تحول في الشكل على حساب المضمون. فالإعلام بكل وسائله انتقل من التركيز على الخبر والتحليل والمعلومات، إلى الاهتمام بالشكليات لاسيما فيما يتعلق بشكل مذيعاته ومقدمات برامجه، حيث أصبحت شاشاته وكأنها منبر لعرض الأزياء ومكان لمسابقات الجمال.

وسط واقع التحول في الإعلام العربي، يبدو المتابع مجرد ضحية ما يحصل، وضحية التبدل في اهتمامات وسائل الإعلام الأساسية وأنواعه الصحافية.

الجانب الثالث، خلقُ سياقٍ تحريري يعتمد على القصة الخبرية بدل الخبر والتقرير والتحليل، والقصة في هذا الجانب، أكثر قابلية لحمولات معينة، أكثر بكثير مما يمكن أن تحمله وتتحمله الأنواع الصحفية الأخرى، القصة التي لا تفعل شيئاً في الغالب سوى استجرار العطف على ضحايا الحروب وبعض المساعدات الإنسانية، وتنبيه الشعوب الأخرى من تبعات الثورات والمطالبات بالحرية.

وسط واقع التحول في الإعلام العربي، يبدو المتابع مجرد ضحية ما يحصل، وضحية التبدل في اهتمامات وسائل الإعلام الأساسية وأنواعه الصحافية، ولم يعد أمام القارئ أو المستمع أو المشاهد، إلا أن يستسلم لما يصله من مواد إعلامية على علاتها من حيث المصداقية والموضوعية والحياد، وأن يراقب بصمت الوجوه الإعلامية والديكورات التي يُطلّون عبرها على المشاهدين. سوف يبقى عمر وسط الموت المحيط ببلده يراقب بانشداد عيني مذيعته الأثيرة على الشاشة، وستحرص كرستين قبل البث على سلامة رموشها المستعارة كما جاء في ردّها (المفترض) على عمر.

كلمات مفتاحية