على هامش السجال حول مادة محمد برو

2018.12.09 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أثار نص للصديق محمد برو، نشر في هذا الموقع، يتحدث فيه عن لقاء عابر، في مدينته حلب، مع أحد سجانيه في سجن تدمر، الكثير من اللغط وردود الفعل الغاضبة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لدى أبناء المنطقة الشرقية ممن اعتبروا النص مهيناً لهم. 

قرأت النص ولم أشعر بأن فيه شيئا موجها ضد إخوتنا "الشوايا" كما ورد في النص. اعتبرت أنها مجرد صدفة أن محمداً لم يلتق بسجان من "شعب آخر" من الشعوب السورية غير "الشوايا". ولكن هل كنت سأستقبل النص بالطريقة نفسها لو كان هذا السجان، بالصدفة، كردياً؟

ليس لدي جواب جاهز. الأمر يتعلق بنص أدبي يتم النظر إلى شخصياته باعتبارها أنماط دالة على انتماءاتها أو مواقعها الاجتماعية. وينتظر من الكاتب تجنب الوقوع في هذا المطب، كي لا يقال عنه إنه "صور الشاوي في نصه على أنه جلاد".

أنا لست مع هذا التقييد للكاتب. فحتى في النصوص التاريخية يقال إن "فرنسا، أو الفرنسيين، احتلوا سوريا". ولا يقال حكومة الحزب الفلاني أو جيش تلك الحكومة أو الرئيس الفرنسي هم من فعلوا. ولا نرى غضاضة في ذلك. فما بالك بنص أدبي، فوق ذلك واقعي أو "وثائقي" إذا جاز التعبير. خاصةً وأن الكاتب لم يتحدث عن "شوايا" بالجمع، بل عن شخص واحد صادف أنه كذلك. هل مطلوب من الكاتب ألا يحدد الحيثية الاجتماعية لإحدى شخصياته كي لا ينظر إليها كنمط دال؟

هل مطلوب من الكاتب ألا يحدد الحيثية الاجتماعية لإحدى شخصياته كي لا ينظر إليها كنمط دال؟

لقد أشارت بعض منشورات فيسبوك ذات الصلة، إلى أن سكان المناطق الشرقية، يقولون عن أنفسهم "شوايا" بلا حرج، لكنهم يشعرون بالمهانة إذا وصفهم آخرون بهذه الصفة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار التركيبة العشائرية المتنوعة لهؤلاء السكان، أمكننا القول إنهم لا يشكلون معاً هويةً واحدة، إلا حين يتعرضون إلى ما يعتبرونه إهانة بحقهم. أي أن هويتهم "الشاوية" ذات طابع سلبي موجه إلى ما هو خارج الجماعة، وذات طابع ظرفي يتعلق بالتعرض لهم.

من تجربتي الواقعية: كانت عناصر الشرطة العسكرية في سجن تدمر ينتمون إلى كل الشعوب والأمم السورية بلا استثناء، فهم يؤدون الخدمة الإلزامية هناك. كنا نعرف ذلك من لهجاتهم، فلا أسماء ولا وجوه في سجن تدمر، بل فقط أصوات ولهجات وشتائم. وحتى نميّز بعضَهم عن بعض، كنا نسميهم بـ"الحلبي" و"الشاوي" و"الكردي" و"الشامي" و"الديري" و"الجزراوي" و"الحموي".. إلخ. لم نسمِّ أحداً بـ"العلوي" لأنهم كثر، أكثر من غيرهم، وكان علينا ابتكار تسميات جديدة لهم تميز كلاً منهم. كذلك لم يكن هناك "المسيحي" أو "الدرزي" أو الإسماعيلي"، فالأول لا يختص بلهجة معينة، في حين أننا لم نصادف درزياً أو إسماعيلياً هناك. لا أعرف إذا كان ذلك مجرد صدفة، أم أن الإدارة لم تفرز أحداً من هاتين الجماعتين الصغيرتين للخدمة العسكرية في سجن تدمر، لسبب لا أعرفه.

الفكرة هي أن نظام حافظ الأسد قد صمم إدارة سجن تدمر بما يعكس "فلسفته" الاستعمارية لحكم سوريا، أي باستثمار التنوع السكاني في سوريا من خلال تعميق الشروخ الأهلية بين مكونات المجتمع، وجعلها فاقدة الثقة بعضها ببعض، خائفة من بعضها بعضاً، الانتماءات الخام الجهوية أو الدينية أو الطائفية أو الإثنية والثقافية – وهي طبيعية بذاتها، لا مشكلة فيها – تحولت بفعل "فلسفة" الإدارة الاستعمارية لحافظ الأسد إلى هويات منغلقة على ذاتها، متنابذة، ألغام قابلة للانفجار حين يتطلب بقاء النظام انفجارها، وتبقى "متعايشة" على السطح، في الأحوال العادية، بقوة القمع والتكاذب، إضافة إلى شيء من البراغماتية الاجتماعية، وأعني بهذه الأخيرة أن عموم السكان لا مصلحة لهم في تفجر ألغام الانتماءات. لكن تلك الثقة المفقودة والمخاوف المتبادلة جعلت وحدة المظلومين في مواجهة النظام أمراً متعذراً، وهذه هي الغاية من تطييف المجتمع أو تسييس الطوائف والمكونات.

الفكرة هي أن نظام حافظ الأسد قد صمم إدارة سجن تدمر بما يعكس "فلسفته" الاستعمارية لحكم سوريا، أي باستثمار التنوع السكاني في سوريا من خلال تعميق الشروخ الأهلية بين مكونات المجتمع

كانت إدارة سجن تدمر مصممة، بحدود ما ظهر لي، على ثلاث طبقات: تتكون الأولى من رتبة رقيب أول فما فوق، وصولاً إلى مدير السجن، وكانوا جميعاً علويين (ربما كان هناك غير علويين، لكنهم لم يظهروا في أي تماس مع السجناء. تبقى معرفتي محدودة بتجربتي). في حين ضمت الطبقة الثانية المجندين، وكانوا من مختلف الانتماءات الجغرافية بما يعكس تنوع التركيبة السكانية في سوريا. أما الطبقة الثالثة، فكانوا "الباحاتية" أو عناصر الخدمة، وهم سجناء من القسم العسكري في السجن، أو سجناء جنائيون مسجونون مع العسكريين المخالفين. كان هؤلاء هم "شبيحة" سجن تدمر، يتصرفون مع السجناء السياسيين بشراسة وكأنهم جزء من إدارة السجن.  

تركيبة الإدارة هذه تشبه، إلى حد كبير، تركيبة السلطة نفسها من حيث الانتماءات الأهلية لعناصرها. فلا اجتهاد هنا أو "إبداعاً"، بل مجرد نسخ لنموذج سلطة النظام.

عموماً، هل تترك الحيثيات الاجتماعية للأشخاص انطباعات تحولهم إلى أنماط دالة على الجماعات التي ينتمون إليها؟ أظن أنه لا مفر من ذلك، ليس فقط بالنسبة للسوريين، بل هذه هي حال الناس في كل مكان. لكن أثر تلك الانطباعات قد يكون مختلفاً من مكان لآخر. ففي سوريا لدينا رهاب من ذكر الانتماءات الأهلية للناس، كأننا إزاء إناء زجاجي قابل للكسر في أي لحظة. ومع ذلك نرى السوريين يهتمون كثيراً بمعرفة انتماء كل شخص. هذا أيضاً من طبائع الاجتماع السوري في ظل حكم السلالة الأسدية.

ما طرأ على العلاقات بين المكونات، في زمن الثورة والحرب، يحتاج تناولاً مستقلاً.