عفواً نصر الحريري..

2018.07.29 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لست سورياً، ولا أقيم في سوريا.. ولا حتى في إسطنبول! مع ذلك أسمح لنفسي أن أعتبر "القضية السورية" ومآلاتها مصيرية لحياتي الشخصية، ولحيوات عشرات الملايين في سوريا وسائر بلادنا العربية. ليس الأمر تضامناً ولا تعاطفاً أو انحيازاً، بل انتماء وانسجام مع الذات، وما تحلم به هذه الذات من سيادة قيم وشروط حياة، فردية وعامة، وما تطمح به من بداهة الحرية والكرامة والعدالة، وحق الرفاهية والسعادة والمساواة في الفرص لسكان هذا الجزء التعس من العالم.

لذا، أفترض أن لي الحق، وليس ترفاً سياسياً، الرد على رئيس هيئة التفاوض نصر الحريري عندما يقول إن "المعارضة لم تخسر الحرب".

في سياق هذا الإعلان، وعلى النقيض من فحواه، يقر الحريري بحقيقة مفزعة: "بإجماع دولي تم وقف الدعم العسكري وغير العسكري عن قوى الثورة والمعارضة، وحتى الدعم السياسي توقف إلى حد كبير. بالمقابل، تم تفويض روسيا بالتدخل، وبالشكل الذي تريد". طبعاً، يمكننا أن نضيف حقيقة أشد قسوة هي التخلي العربي التام عن المعارضة (وعن كل سوريا)، فيما الوقائع الميدانية، منذ سقوط حلب إلى سقوط الغوطة وصولاً إلى درعا والقنيطرة، تتسق مع نتيجة واحدة: ثمة طرف يخسر الحرب. يخسرها بفداحة.

عندما يكون معظم نشطاء التظاهرات إما أمواتاً تحت التعذيب أو منفيين في وحشة الغربة ومرارتها، وعندما يستجدي مئات الآلاف من العائلات العودة من مخيمات الذل في لبنان والأردن إلى قراهم المدمرة وتحت خطر معاقبة النظام وبطشه الأكيدين.. و"يتكرم" عليهم "حزب الله" بترتيب مسيرة الخنوع لـ"حضن النظام"، وعندما يكون مصير كل ثائر امتشق البندقية - وبقي في الداخل - إما القتل أو الاستسلام أو الالتحاق الإجباري بجيش احترف قتل أهله ورفاقه، وعندما يضطر شجعان "الخوذ البيضاء" المرور بإسرائيل للهرب من الإبادة، وعندما تصطف آلاف الأمهات والزوجات أمام المكاتب الحكومية لاستلام شهادات وفاة أبنائهم وأزواجهم الذي

عندما تختفي من التداول فجأة كل القرارات الدولية وبيانات جنيف وغيرها، ويُترك مصير السوريين للنظام وحلفائه.. وعندما نسرد ما لا يُحصى من نكبات حلت بكل عائلة سورية، لا يسعنا إلا القول: الهزيمة كبيرة.

قضوا اغتيالاً في السجون أو في مقابر جماعية، ولا يعبء النظام حتى بتسليم جثثهم، وعندما يتكدس مئات الألوف من السوريين في إدلب، "المعقل الأخير"، ولا ضمانة لهم من حملة السحق والموت والتدمير سوى "نقاط مراقبة تركية"! وعندما لا يبقى "وسيط" في المفاوضات السياسية بين المعارضة والنظام سوى ضباط روس هم أنفسهم الذين سحقوا بفعالية تدميرية هائلة جغرافيا الثورة وعمرانها البشري، وعندما تموت في أروقة "الأمم المتحدة" ملفات المفقودين والمعتقلين، وملفات الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وعندما تتحول قضية ملايين الذين شردهم النظام إلى محض قضية "إنسانية"، كما لو أنهم ضحايا كارثة طبيعية أو مجرد لاجئين من مجاعة، وإسقاط البعد السياسي منها بما يعفي العالم عن ملاحقة المسبب والمذنب، وعندما تختفي من التداول فجأة كل القرارات الدولية وبيانات جنيف وغيرها، ويُترك مصير السوريين للنظام وحلفائه.. وعندما نسرد ما لا يُحصى من نكبات حلت بكل عائلة سورية، لا يسعنا إلا القول: الهزيمة كبيرة.

لا يا كبير مفاوضي المعارضة، لقد "خسرنا الحرب" وهي خسارة ستكون أكبر عندما لا نعترف بها. بل هي كارثة وقد تتضاعف كارثيتها إن لم نقر بها.

الاستقامة السياسية والصواب الأخلاقي يفترضان بنا أن نعترف. وحده الاعتراف يتيح لنا أن نذهب إلى "بداية جديدة". العظمة تتجسد ليس في عدم السقوط، بل بإرادة النهوض بعد الإقرار الصريح بهذا السقوط. ليس القصد الغرق بـ"نقد الذات" بما تعنيه من متاهات سجالية ودوامات تبادل الاتهام واللوم، فهذا يضمن رسوخنا في الهزيمة على الأرجح.

القصد من الاعتراف هو توقير للضحايا، للمحزونين، للمعذبين، للبيوت المدمرة، للأموات في قبورهم المشهودة والمجهولة.. هو احترام للدم. بل وصوناً لإنسانيتنا، علينا أن نبكي خساراتنا بحرقة وأسى. المكابرة تضعنا خارج الحقيقة فنغادر التاريخ كمغفلين.

.أن نعلن هزيمتنا هو الفعل الضروري كي لا يأخذنا الإنكار إلى اليأس. و"الانتحار السياسي" هو بالضبط التملص من الحقيقة، والأسوأ هو الكذب على الجمهور.. ترويج آمال زائفة

لقد حلت بنا هزيمة قاسية ولعينة، وسينتج عنها بقاء سوريا لعقود إضافية كما أرادها آل الأسد: ضد الزمن (بالمعنى العميق للكلمة)، معلقة في تفاهة الديكتاتورية وشرها، محبوسة في يوميات خاوية إلا من القهر والذل.

أن نعلن هزيمتنا هو الفعل الضروري كي لا يأخذنا الإنكار إلى اليأس. و"الانتحار السياسي" هو بالضبط التملص من الحقيقة، والأسوأ هو الكذب على الجمهور.. ترويج آمال زائفة، بدلاً من ملاحقة الأمل الفعلي: مقارعة الهزيمة نفسها، مواجهتها حتى العظم.

وقفت مي سكاف وجهاً لوجه أمام الهزيمة، ثقب أسود ومظلم، وكتبت في لحظة موتها "لن أفقد الأمل ... لن أفقد الأمل.. إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد". قبلها، سعدالله ونوس كان يصارع موته ويكتب "إننا محكومون بالأمل". هذا قدرنا كسوريين ولبنانيين وفلسطينيين وعرب، محاصرون بملوك وأمراء ورؤساء أنذال، وبعالم يتربع عليه أمثال بوتين وترمب ونتانياهو.. استباحوا دماءنا بهمجية شاملة.

رغم هزيمتنا وموتنا نكتب الأمل. هذا بالضبط ما يجعل المنتصرين يوغلون بوحشيتهم. الوحشية بوصفها ذروة اليأس.