عرفتني ميسون بعد ثوان

2019.09.06 | 21:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"من وليد ل.؟"

كان ذلك الاسم الذي كنت أستخدمه في البطاقة المزورة. كان الرجل يقف وراء الكنتوار في الأمن العام على الحدود السورية-اللبنانية، يحمل بطاقتي بيده ويتأمل الوجه. خفق قلبي بعنف، واستشعرت كآبة لسماعي رنة الصوت. لم يكن سؤالا بريئا. والبطاقة كانت رديئة التزوير.

أنا، قلت بصوت لا يشبه صوتي.

عقدنا للتوّ المؤتمر الأول التأسيسي لحزب العمل الشيوعي في ضيافة النائب اللبناني السابق زاهر الخطيب

"شرف لهون!" قال الرجل الضخم الجثة أصلع الشعر ذو الشاربين الكثّين اللذين يشبهان دغلا. ولم يكن ثمة مجال للمناورة أو الهرب أو التراجع. دخلت إلى داخل الكنتوار، ثم إلى غرفة مكتب مقفلة.  نظر إلي رجل يشبه المساعدين الذين سأعرفهم بعد ذلك في السجن. راح الرجل ينظر إلى سحنتي ويتأمل الصورة في الهوية. أخيرا سألني إن كنت أحمل جوازا أو رخصة سوق. لم أكن أحمل واحدة بالطبع. فقال لي: "يا حمار، بدك تزور زور منيح." ثم سألني إن كان معي أحد بالسيارة. أجبت بالنفي، رغم أن منيف وحنان كانا في السيارة. أعطى أوامره إلى العملاق الذي أدخلني الغرفة.

كنا في طريق العودة من بيروت بعد أسبوع أمضيناه في بلدة شحيم في قضاء الشوف بلبنان. لقد عقدنا للتوّ المؤتمر الأول التأسيسي لحزب العمل الشيوعي في ضيافة النائب اللبناني السابق زاهر الخطيب، الذي ألقى في افتتاح المؤتمر كلمة نارية ألهبت أكفّنا ومشاعرنا، أدان فيها النظام الدكتاتوري السوري وسخر من حافظ الأسد، وشجّعنا على مواصلة الكفاح. بعد سنوات سيصبح زاهر الخطيب نفسه أكبر داعية لحافظ الأسد ووريثه في الحكم. 

قبل سفري إلى لبنان، مررت إلى بيتنا في حمص، واحتفلت مع أبي وأمي بعيد الفطر، ثم سافرت في اليوم عينه (1/8/1981) إلى دمشق، ومن ثمّ إلى بيروت، ومنها إلى شحيم، لا تزال النسمات المنعشة التي راحت تهبّ علي من نافذة السيارة المفتوحة، ونحن نهرب من حريق بيروت ورطوبتها، مرورا بأجمل البلدات اللبنانية: بعقليــن، عينبـــال، غريفـــة، حصروت، عانــوت، ومرج علي، تنعش ذاكرتي حتى اليوم.

ستّة أيام بلياليها أمضيناها في نقاشات حامية مستمرّة. كنا نحو خمسة وثلاثين مندوبا، افترشنا الأرض في شقّة مساحتها مائة متر مربع، نمنا وائتمرنا وأكلنا على الأرض، ولم يكن في الشقة سوى طاولة واحدة وراءها كرسي واحد جلس عليه مدير الجلسة الذي كان يتبدّل من جلسة لأخرى. في اليوم الأخير 6 آب/أغسطس، تمّت انتخابات اللجنة المركزية الجديدة، وفاز فيها خمسة عشر رفيقا. حللت في المركز 16 أنا ورفيق دربي أحمد رزق بنفس العدد من الأصوات. ولأن أحد الرفاق الذين انتخبوا في اللجنة المركزية كان في المعتقل، فقد انضممت إلى اللجنة المركزية، بعد أن تنازل لي أحمد عن المكان، دون إعادة انتخابات.

في السيارة من بيروت على دمشق، جلسنا، منيف ملحم وحنان وأنا في المقعد الخلفي السيّارة. كانت حنان تجلس بيننا، كما كانت تفعل خلال عام ونصف كاملين في الحياة.

"خلّه ينزل حقيبته وعد به إلى هنا." ثم أضاف:

"إذا تحرك رشّه." لم يرشّني. بهدوء أنزلت حقيبتي ببطء لأتأكد من أن منيف وحنان قد رأياني، ثم عدّت. بعد نصف ساعة، دخل أربعة رجال الغرفة. نظر إلى من بدا زعيمهم وسأل: "هذا هو؟" هز العملاق برأسه، فاقتادني الأربعة إلى السيارة. وبدأت رحلة امتدت عشرة أعوام، وانتهت منذ ربع ساعة.

"وين في المشروع؟" سأل السائق.

"الجزيرة الثالثة." قلت

كنت أتنفس الأشياء من حولي كالهواء. وكانت أشجار الزنزلخت على ضفتي طريق الربوة تدلي أغصانها مني كأنها تحمد الله على سلامتي. وسألني الرجل:

"غريب؟"

"لماذا؟"

"خطر ببالي."

قلت: "كنت خارج البلد."

"أين؟ في إسبانية؟"

لا أدري لم أختار إسبانيا، ولكنني أجبت بالإيجاب. " كيف عرفت؟"

أجاب بابتسامة، "لا أعرف. خمنت."

ضحكت. ومنذ ذاك اليوم أطلق على السجن اسم إسبانيا، تحببا. أمضينا ربع ساعة نسأل عن منزل هاني الراهب حتى اهتديت إليه أخيرا. فتحت ميسون الباب. كان ذلك أول امتحان حقيقي لي في الحياة العادية. كان بي فزع شديد ألا تعرفني، وفزع آخر أن تعرفني ولا يعني لها ذلك شيئا. وقفتْ بالباب ثوانٍ، جميلة كما كانت دائما. احتاجت إلى ثوان قبل أن تميّز الرجل الضئيل الواقف أمامها.  ثم تغيرت ملامح وجهها من السؤال إلى الوجوم، إلى الدهشة، إلى الابتسامة فالضحكة المطربة الفتانة.

"وائل؟؟؟؟"

ما كان أجمل صوتها، وما كان أجمل جرس اسمي وهو يأتي من بين شفتيها. امتدت يداها إلى ذراعي، فأزمتهما بقوة، ألا أفلت منهما، ثم قبلتني ثلاثا. وعادت تتأملني، وتقول: "ادخل. ادخل!" ستظلّ صورة ميسون وهي تفسح في المجال لأدخل صاخبة ضاجّة بالحياة طوال العمر.  دخلت. في غرفة الجلوس كان ثمة صبية فاتنة في الرابعة عشرة أو تزيد قليلا.

"ما عرفتها.  هذه يافا."

يافا. بلحظة واحدة، أدركت هول الأمر. أدركت ماذا تعني عشر سنوات تذهب من حياة الفتى. كانت يافا طفلة جميلة، طالما حملتها على كتفي وأحضرت لها الحلوى والشوكولاتة. الآن هي صبية يافعة، تضج أنوثة وفتنة وسحرا.

"ما بك؟" قالت ميسون ولم تنتظر جوابا. قالت:

"هاني نائم. في الأوقات العادية، يعتبر إيقاظه كفرا. ولكن الآن الأمر مختلف." ودخلت غرفة النوم توقظه. تأملت البيت الجميل المرتب والنظيف كعادة ميسون دائما. ثم رحت أرنو إلى الوجه الجميل الماثل أمامي. من ذلك الوجه، جاءتني الصفعة الثانية:

" عمو. صحيح كنت عشر سنوات في السجن؟"

عمو؟

قال لي أخي فراس في إحدى الزيارات: "عندما تخرج، يجب أن تكون حذرا من كلّ شيء. أنت دخلت في السبعينات وستخرج في التسعينات." كان ذلك صحيحا بالمطلق. وصحيح أيضا أنني دخلت في أواسط العشرينات وخرجت في أواسط الثلاثينات وراحت الصبايا ينادينني عمو.

دخل هاني. النوم في عينيه وشعره غير مسرح بالمشط. وصاح: "العمى، إي والله." أخذني بين ذراعيه بالودّ القديم نفسه، وشعرت بصوته يتهدّج.

ما كان أجمل صوتها، وما كان أجمل جرس اسمي وهو يأتي من بين شفتيها. امتدت يداها إلى ذراعي، فأزمتهما بقوة

تعود علاقتي بهاني الراهب إلى الستينات. كنت في مرحلتي الابتدائية؛ الوقت صيف، وقد أنهيت قراءة مجلة سندباد المصوّرة، ولا يزال الوقت ظهرا والضجر مسيطرا. أصخت السمع لأرى إن كان الصبية قد خرجوا من قيلولتهم إلى الحارة ليلعبوا كرة القدم أو لعبة عسكر وحرامية، ولكن الجميع آثروا البقاء في بيوتهم هربا من الحرّ. قربي على الطاولة مجلة ما لأحد أخوتي. أفتحها ضجرا وأتصفّحها. تمرّ عيناي على عنوان "المدينة الفاضلة". لا أدري ما الذي جذبني في العنوان. بدأت أقرأ القصة ويتصبّب مني عرق غزير. ما زلت أذكر القصة ولكن بشيء من الغموض. في مدينة ما يحفر الناس قبورهم في صحن دارهم، انتظارا للموت، وثمّة فتى مثلي، حائر، لا يعرف لماذا يفعلون ذلك. جاء والدي مساء، فسألته: هل حقا بعض الناس يحفرون قبورهم في صحن بيوتهم؟ وأعطيته المجلة. ابتسم الرجل الذي نادرا ما يفعل، وحاول أن يشرح لي شيئا اسمه الرمز في الأدب. بعد ذلك، عرفت هاني أكثر. قرأت له "شرخ في تاريخ طويل" وبعدها "ألف ليلة وليلتان" وفتنت برواية "بلد واحد هو العالم. في بداية السبعينات، عاد هاني من إنكلترا بشهادة دكتوراه نالها من جامعة إكستر وبمعرفة عميقة بآخر تقنيات الأدب العالمي، وبخاصة الإنكليزي والأمريكي. رأيته أول مرّة في مدرّج في كليّة الآداب بجامعة، حيث كان يدرّسني مادّة الترجمة. مرّة، تقدمت منه بعد المحاضرة، وقلت له بصوت متردد بالإنكليزية إنني أكتب القصّة وأتمنى أن يعطيني رأيه بواحدة منها.

"later on, later on!" أجابني ومضى غير عابئ.

بعد سنوات، سأروي له الحادثة، وسيعلّق بغضب مصطنع، "معقول؟ أنا فعلت ذلك؟"  في عام 1979 نشرتُ في جريدة الثورة دراسة لواحدة من قصصه القصيرة على امتداد صفحة كاملة. طُرِب هاني لدراستي، وسأل عني أخي سحبان: "بتعرف واحد اسمه وائل السوّاح." حين عرف أنني أخوه، طلب منه أن يعرّفني إليه.  التقينا في مقهى الروضة، ووقعت في غرامه مباشرة.

قدّم لي هاني التلفون لأتصل بأخي فراس.  مددت أصابعي أبحث عن قرص التلفون، فوجدتني أفاجأ بجهاز أبيض فيه أزرار عديدة. أزرار بأرقام وأزرار برموز غريبة ليس لها علاقة بتلفون القرص الذي عرفته قبل الغياب. وجِلت، وسحبت يدي، ألا أضغط على زر فأخرب الجهاز. وإيثارا للسلامة، طلبت من هاني أن يكلم فراس بنفسه.  ضحك، وأخذ السماعة وتحدث مع فراس، ثم وضع السماعة وهو يغرب في ضحكة مجلجلة. قال له فراس:" شو عم يعمل وائل عندك."

وجاء فراس ليصحبني إلى بيته القريب من بيت هاني. قبل أخرج أصرّ هاني أن آخذ مبلغا من المال، وضعته في جيبي، ومشيت مع فراس ونحن نحمل حقيبتي من طرفيها ونلوّح بها إلى الأمام وإلى الخلف، ونتجاذب طرفي الحديث كأننا كنا مساء الأمس معا نحتسي البيرة في سناك أمية. ذاك هو فراس.