عذراً سيدي؛ لقد رأيتك في نومي، تعاشر أمي (الجزء الثاني)

2018.09.03 | 10:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الجزء الأول من قصة محمد (الضابط الذي مات تحت التعذيب لفضحه حقيقة الاستبداد، عندما قال إنه رأى الضابط في الحلم يعاشر أمه)، شهدنا مثالاً لتسابق الموالين لنظام الاستبداد على التمجيد الطوعي بمستعبدهم؛ الأمر الذي يعكس حالة الانسحاق التي وصلوا إليها. من المُرَجَح- على أي حال- أن أياً من الجنود لم يرَ حلماً تلك الليلة؛ ولكن الضابط الكبير أثبت أنه يستطيع أن يستجرّ من الجنود تخيلات كهذه. والجنود بدورهم عبّروا عن طاعة عمياء. فبينما يطلب الضابط منهم ما يمكن أن يبدو مغروساً في أعماقهم، فإنه مكنّهم أيضاً من رواية ملفقة لا يمكن إثباتها. ولكن ما معنى مشاركة الجنود وتجاوبهم المستكين بالمطلق؟ وما معنى مخالفة محمد؟ ولماذا الدفع باتجاه المراءاة؟ وما الغاية من إنتاج سياسات تعتمد على خلق أفخاخ ولاء سهلة التكذيب والنقض بدلاً من خلق ولاء يعتمد على اعتقاد داخلي راسخ، حتى ولو كان زائفاً أو خلبيّاً؟ والأهم، كيف تتخلص سورية من هذا الوباء؟

لقد اعتمد زملاء محمد في رواياتهم على ذخيرة من الصور، حاكوها كي ينتجوا أيقونة سياسية لاهوتية سورية مترسخة. فصورة” الشمس” في سورية - كما في أمكنة أخرى - تعج بالقدرات الأسطورية؛ فالجندي يصعد السلالم والأدراج لكي يرتقي إلى مصافِّ القائد، مما يدل على هرمية يتربع القائد على قمتها كالشمس. إنها تدل على امتصاص أو تذويب أو سحق القائد للآخرين واختصارهم بشخصه؛ ومن هنا قيام مسخ بموقع "أمين عام" لأحد أحزاب ما يسمى” الجبهة الوطنية التقدمية” في سورية، المدعو (ص. ق.)، بوصف القائد: “رجل بأمة وأمة برجل “

من المعروف أنه لا يهم نظام الاستبداد ما يفكّر به الرعايا، طالما أنهم ينفذون ما يُؤمَرون به؛ ومع ذلك يتغوّل في سحق تلك الرعية لدرجة دخوله إلى منظوماتهم الذهنية

من المعروف أنه لا يهم نظام الاستبداد ما يفكّر به الرعايا، طالما أنهم ينفذون ما يُؤمَرون به؛ ومع ذلك يتغوّل في سحق تلك الرعية لدرجة دخوله إلى منظوماتهم الذهنية، وإشعارهم بأنه يراقب ما يدور في الأذهان؛ ما يذكر بـ "الأخ الأكبر" في رواية جورج أرويل 1984.

إن أوامر الضابط الكبير في قصة محمد، كي يروي الجنود أحلاماً، هي إعلان لقوة النظام وعملية غرس وتكريس لأسطورته. من جانبهم، قام الجنود بإظهار ولائهم تنافسياً. وما حدث هو أن زملاء محمد لم يظهروا فقط ولاءهم، بل اشتراكهم في تعميق العبودية للشخص، وتآمرهم في تعميق ذلك الانسحاق. وكي تتم عملية التآمر أو التواطؤ، لا بد من ربط الذات بالأعمال والممارسات التي يريد النظام نشرها وتكريسها. ومن هنا ترى كثيراً من الموالاة يرفضون بالمطلق تصديق أي جريمة ارتكبها نظامهم بحق السوريين؛ وحتى إن رأوا ذلك بأعينهم، وينبرون إلى تقديم التبريرات.

إن مخالفة محمد لا تتمثل بسوء أو بشاعة” الحلم” الذي رواه، بل بفشله في الالتزام بقواعد سلوك الطاعة التي أرساها النظام بتكريس الصمت والخوف. والطاعة ها هنا تتضمن التظاهر بأنه حتى الأحلام يتم تفصيلها حسب تعريف الدولة للمجتمع ككتلة بشرية يتحد أفرادها بدعم الطاغية وتقديسه. ومن هنا يأتي التماهي بين القائد والبلد والسلطة لينصهروا بالوطن، ويصبحوا واحدا. فعندما تتناول القائد، أنت تتناول الوطن؛ وبذا تصبح خائناً للوطن. لغة وخيال هؤلاء يجب أن تكون مسخّرة في بناء أفكار المجتمع عبر تصميم الروايات والقصص، وإعادة إطلاقها كشعارات تعكس وتترجم الهيمنة وحتى الانتماء. فأنت كسوري تُقاس وطنيتك بقدر ولائك وانتمائك للقائد المعظّم، وتعبيرك اللاإرادي عن انسحاقك أمام هالته الجبارة.

إن مخالفة محمد لا تتمثل بسوء أو بشاعة” الحلم” الذي رواه، بل بفشله الالتزام بقواعد سلوك الطاعة التي أرساها النظام بتكريس الصمت والخوف

السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا يريد النظام” متآمرين” أو” متواطئين" ولا يريد هيمنة مباشرة أو شرعنة؛ رغم أن كل تلك المصطلحات حسب / فوكو / تتضمن ضبط القوة التنميطية؛ إلا أن الهيمنة المباشرة والشرعنة تستلزمان شيئاً من العقلنة أو الاعتقاد أو الالتزام العاطفي الذي لا يستلزمه التآمر أو التواطؤ. وهنا يقول / هافل / بتحليله للدكتاتوريات:” يصبح الناس عملاء لآلة النظام المؤتمتة وخَدَماً لأهدافه المبرمجة سلفاً، بحيث يشاركون في المسؤولية عما يحدث. ومن هنا فإنهم يخلقون نمطاً يبدأ بتشكيل ضغط على المواطنين الآخرين؛ وتتطور لديهم طاعة لاإرادية أو اعتيادية بحيث يصبح الخضوع والرضوخ والانسحاق عادة. وكلما كانت الهالة غير معقولة أو غير قابلة للتصديق، أصبحت الهالة أقوى.

لم يكن نفاق الجنود عصياً على التفسير، ولا ثورة أو اعتراض محمد عسيرة على الاستيعاب. ما فعلته رواية محمد هو كسر تعويذة القداسة والخنوع والخضوع الذاتي للقائد الأسطورة المفدى. من جانب آخر، محمد يعيد ترتيب رمزيات السلطة من أجل نسفها وإسقاطها؛ إنه يمثل الإمكانية المتوافرة للإنسان السوري في سخطه وانقلابيته وثوريته. لقد نسف محمد بتلميحه منظومة العبودية وروايتها عندما قدّم صورة ”سِفاح القربى” حيث يشاهد الأخ الأصغر محمد- ودون حول أو قوة - أخاه الأكبر الضابط - مستبيحاً غرفة نوم أمه. إنه الضابط الرمز- ممثل السلطة السياسية- ابن أمه لمحمد؛ بحكم أخوته التراتبية له؛ فهو أيضاً ابن الأم المُفْسَدَة المستباحة. الضابط بالنسبة لمحمد يضيف إلى لا شرعيته الناتجة عن السفاح إفسادا وتدنيسا وقتلا لطهارة الأم / الأمة/ البلد. إن تصرف محمد يعكس انفصاله عن زملائه (إخوته في الصورة البلاغية) ويظهر مراءاتهم بشكل فاضح، ويقدم رسالة مفادها أن سورية أصبحت مستباحة لضباط فاسدين. رسالته الصاخبة بصمتها تقول: "لقد لوّث هذا النظام هذا البلد وحوله إلى ضحية مسحوقة ومدمرة"؛ وفي الوقت نفسه يبعث الأمل بالثورة والتغيير؛ عندما يناكف.

رسالته الصاخبة بصمتها تقول: "لقد لوّث هذا النظام هذا البلد وحوله إلى ضحية مسحوقة ومدمرة"؛ وفي الوقت نفسه يبعث الأمل بالثورة والتغيير؛ عندما يناكف

 إذا اعتبرنا أن حالة الانسحاق التي ألمّت بالإنسان السوري؛ وخرّبت جزءاً من منظومته الأخلاقية والنفسية والمسلكية، وعطبت حتى إرادته، وكسرت شخصيته الآدمية، وحوّلته إلى كومبارس يتحرك ذاتياً ولاشعورياً في دائرة تتماهى مع الاستبداد؛ حيث يأسر نفسه طوعياً في شباك هيمنة الدكتاتور المستبد؛ فلا عجب ولا استغراب أن يرى كل ما جرى ويجري من ارتكاب جرائم بحق الوطن؛ ويستمر في الرقص والمحاججة؛ وحتى القتال في لواء قاتله ومستعبده ومستبيح بلده….

في سورية رفع نظام الاستبداد جملة من الشعارات: /"الأسد أو نحرق البلد"- "الأسد أو بلا هالبلد"- "الأسد أو لا أحد"/ فيها الإبادة مدونة كثابت إن لم يكن الأسد؛ وهذا لن يتغيّر إلا بنسف هذا الثابت الذي يشكل الانسحاق الجزء الأساسي منه؛ وبداية الحل حقيقة لا تكون إلا بتفكيك هذه المنظومة الذهنية الجهنمية الخانعة والتخلص منها.

لا بد بداية من جلب هذه الحالة إلى ساحة الشعور، والتشخيص الدقيق لهذا الداء المزمن… فأول الشفاء التشخيص الدقيق. لا بد بعد ذلك من إحداث الصدمة بالصعق بكهرباء الواقع الذي سعى النظام إلى أن يكون منفصلاً ومنفصماً عنه وأورثه ورسّخه وعزّزه في تابعيه (لا بماس كهربائي كما ادّعى مؤخراَ). يأتي بعد ذلك الانطلاق نحو بناء الثقة بالذات أولاً، وبالآخر ثانياً؛ فالسوري ليس عدواً للسوري؛ هناك من هو عدو لأي سوري؛ إن لم يكن عبداً وتابعاً له. الحل يحتاج إلى عقول نقية فاعلة تؤسس لمشروع يعيد للسوري عقله ونفسه وكلمته وفعله. ما حدث في انتفاضة سورية دمّرَ صورة الدكتاتور مهما حاولت منظومة الاستبداد أن تلصقها أو ترممها. لقد سقط الصنم، ولا بد من أن ينتبه مَن انسحق ومن يعبده.