عالم حار ومزدحم وعنيف

2019.01.12 | 20:49 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بالأمس القريب، ودعنا عاماً صاخباً وحاراً، عاماً مشبعاً بروائح الدم والبارود، والتهجير والقمع والتوحش المفرط الذي يصعب إحصاء عدد ضحاياه، في هذا الكوكب الأزرق.

واليوم نستقبل عاماً ينذر بمزيد من الغضب، والقتل والمصائب التي ستبسط ألف سببٍ إضافيٍ، لمزيد من العنف والكراهية والاضطراب، ولا يمر بنا يوم إلا وتطالعنا مراكز الأبحاث والرصد، بدنو أزمةٍ اقتصاديةٍ ستنهار معها اقتصادات عالمية، تاركة وراءها أمماً برمتها نهبا لمصيرٍ مجهول، عنوانه العنف العولمي.

أصبحت الأخبار اليومية، التي تمطرنا بها شاشاتنا المتعددة، بدءاً من هواتفنا الذكية وصولاً إلى الشاشات المنزلية، عبوراً  بصفحات التواصل الاجتماعية، غمامةً معتمةً من العنف المتنوع، وأخباره التي لا تنقطع على كل الأصعدة، والتي تفعل فعلها المباشر، في كل تفاصيلنا اليومية، بدءاً من تأثيرها على علاقاتنا الشخصية، في الأسرة ودوائر العمل والأصدقاء، لتضفي لوناً قاتماً، وطيفاً شديد التوتر يطبع قراراتنا، وعلاقاتنا البسيطة والمركبة.

منذ عشر سنوات، كتب توماس فريدمان عن عالمنا كتابه الشهير (عالم حار ومسطح ومزدحم).

يمكننا أن نصف هذا العالم، بأنه عالم عنيف

واليوم يمكننا أن نصف هذا العالم، بأنه عالم عنيف، وهو حصيلة طبيعية للتسطيح والازدحام والحرارة، ليس بالمعنى الفيزيائي وحسب، إنما بتشعبات هذا المعنى في مضلعات حياتنا الكثيفة، فقد تسرب هذا العنف إلى مطاوي ساعاتنا، بدءاً من الرسائل التي تصلنا في ساعات الصباح الباكر، وعبر الأخبار التي نرتشفها مع قهوة الصباح، والتي تكتظ بمشاهد القمع والقتل، والضرب والتدمير وأشكالٍ للعنف، لم يسمع بها أسلافنا، وأخبار عن معتقلات ومسالخ بشرية، يتم بها القتل العمد يومياً، وحروبٍ تتصاعد حدتها كل يومٍ، مرورا بعشرات المحطات اليومية، وختاماً عبر الفيلم السينمائي، أو المسلسل التلفزيوني، الذي نتابعه في آخر سهرتنا المنزلية.

تنسكب الأخبار اليومية، التي تردنا كل دقيقةٍ، حول ما يجري في بلداتنا وأحيائنا، وحتى في بيوتنا، عبوراً بآلاف القصص والحكايات، عن أصدقائنا الذين تناثروا هنا وهناك، في دول اللجوء، في المخيمات ومكاتب الهجرة، يمضغون صاغرين شتى مظاهر العنف العابرة للقارات.

وليس خافياً ما لهذا الإيقاع المخيف، من تأثير على تنامي أونشوء السلوك العدواني لدى أطفالنا ويافعينا، سيما أن هذا التعرض المنتظم والمرتفع الوتيرة يوميا، يعزز العدوانية ويجعلها ظاهرة مألوفة، وطبيعية في مجتمعاتنا عامة.

وفي بحث نشرته منظمة (الائتلاف الدولي ضد العنف التلفزيوني) والذي استغرق مسحا دام 22 عاماً، ليخلص بنتيجة مفادها، أن هنالك علاقة مباشرة بين أفلام العنف التي راجت في تلفزيونات الستينات، وارتفاع وتيرة العنف العام والجريمة، في السبعينات والثمانينات، لتؤكد أن تأثير العنف المتراكم للتلفزيون، يمكن أن تظهر نتائجه بعد عشرين سنة.

يقول الدكتور (رويل هيوزمان): إن ذلك يجعل الأطفال يكتسبون عادات عدوانية، بحيث يصبحون عندما تتقدم بهم السن، أكثر ميلاً إلى الأعمال الإجرامية.

إذا كان السجن هو المدرسة الإعدادية للجريمة، فإن التلفزيون والسينما هم المدرسة الثانوية لها

مما حدا بعض العلماء للقول "إذا كان السجن هو المدرسة الإعدادية للجريمة، فإن التلفزيون والسينما هم المدرسة الثانوية لها، إن لم يكن جامعة الجريمة أيضاً"، هذا الكلام السابق يتحدث عن العنف في وسائل الإعلام، كمادة تمثيلية سينمائية أو ما شاكلها، إلا أننا اليوم نعيش طفرةً غير مسبوقة، حيث تتخصص مئات القنوات في نقل الأخبار والوقائع الآنية، وإعادتها مكررةً أكثر من مرة، في جولةٍ إخباريةٍ واحدة، وليس خافياً ما تحمله أخبار اليوم، من كوارث وجرائم وفظائع، تجري هنا وهناك، لتتكثف في ساعةٍ واحدةٍ كجرعةٍ قاتلةٍ من العنف.

ونهبط طبقةً أدنى، لنجد آلاف الصفحات والمواقع، التي انتقلت من مواقع للتواصل الاجتماعي، إلى ساحات احتراب شخصية وعامة، لا يرعوي لاعبوها عن رشق الآخرين بحرابهم وشتائمهم، بسيل لا ينضب من العدوانية، والكراهية، حتى لو كان الموضوع، خلافاً حول فريقٍ كروي.

ومن المعلوم تلازم الفقر مع العنف، ودور العشوائيات في تنامي ظاهرة العنف والكره الجماعي، والنزوع للجريمة، وهو ما تقدمه هذه الحروب المستعرة، ومخيمات اللجوء وصور النزوح الجماعي، والقتل العشوائي في أكثر من بقعة، والتي تنقلها لنا وسائل الإعلام، كقذيفة جوفاء، تدخل منازلنا كل ساعة، لتحيلنا إلى أفراد محتقنين، وحانقين وغاضبين وعنيفين، بسبب ما يجري في الصين واليمن وليبيا وسوريا ومصر وإيران، في آنٍ معاً، وهذا لعمري أكبر من طاقة الفرد على التعليل، والفهم والاحتمال.

فهل ستكون نبتة الشر هذه، علة فنائنا الآتية.