صراع الهوُيّات في سوريا حقيقة أم وعي مقلوب؟

2018.06.03 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

رافقت تحوّلات المسألة الوطنية السورية بعد الثورة حالة من الصراع الهُوياتي، تمّ الاستناد فيها إلى عدّة فكرية -أيديولوجية، استخدمت ظاهرياً كأدوات في التحليل والاستنتاج، لكنها أخفت في مجملها مواقف داعمة لأطراف في الصراع، بعض تلك الأطراف هي متخيلة، وضعها المنشغلون في أزمة الهوية كأطراف واقعية وحقيقية في تحليلاتهم، وكان واضحاً في بعض التحليلات أنها تنطق عن آلام كبيرة، وعن قراءة محددة ومحدودة للتاريخ السوري.

منذ مؤتمر توحيد المعارضة المنعقد في القاهرة بتاريخ 2و3 يوليو/ تموز 2012، أمكن لكثر، وأنا منهم، بوصفي مشاركاً في المؤتمر آنذاك، وعضواً في اللجنة النهائية للمؤتمر، والتي قامت بمراجعة توصيات المشاركين، من أجل النظر فيها، وإمكانية تضمينها في وثيقتي المؤتمر (وثيقة المرحلة الانتقالية، ووثيقة العهد الوطني)، أمكن لنا أن نلاحظ وجود حالة انقسام حول مسألة الهُوية لدى بعض أطراف المعارضة، حيث أكّد الإسلاميون بصفة عامة، والإخوان المسلمون بصفة خاصة، على رفض مصطلح العلمانية، واستبداله بمصطلح المدنية، فيما طالب معظم المشاركين الأكراد بتضمين بند خاص، لضمان الحقوق الكردية، وهو ما دفع بممثلي الآشوريين والتركمان للمطالبة بذات المطلب الكردي.

مسألة الديمقراطية التي كانت مطلباً جامعاً لكل القوى السياسية المعارضة أصبحت في عامي 2013 و2014 والنصف الأول من 2015 محل خلاف بين تلك القوى.

مجريات مؤتمر القاهرة تكرّرت لاحقاً بتفاصيل مختلفة في مؤتمرات المعارضة التي عقدت في غير عاصمة عربية أو أجنبية، بل أن التشدّد حول مرجعية الدستور، وضرورة الإشارة إلى الدين الإسلامي كمرجع رئيس من مرجعيات الدستور أصبحت مسألة واضحة، وقد تزامنت حدّة الطرح مع متغيّرات عدة في الواقع الميداني، فمع ازدياد قوة ونفوذ الفصائل الإسلامية المقاتلة، برز نوع من التشدد عند ممثلي الإسلام السياسي الصريحين، أو ممن يدورون في الفلك ذاته، بحيث أصبح بإمكان ممثلي قوى الإسلام السياسي الضغط من خلال وقائع ازدياد نفوذ الفصائل الإسلامية على الأرض، وسيطرتها على مساحات جديدة بشكل مطّرد.

مسألة الديمقراطية التي كانت مطلباً جامعاً لكل القوى السياسية المعارضة أصبحت في عامي 2013 و2014 والنصف الأول من 2015 محل خلاف بين تلك القوى، فقد رفض إسلاميون، ومن بينهم إسلاميون متنورون (بحسب ما يتم تصنيفهم عادة) تكرار مصطلح الديمقراطية في البيانات الختامية، والاكتفاء بالإشارة إليه بشكل عابر، كي لا يثير (حفيظة المقاتلين على الأرض)، بحسب تعبير أكثر من مشارك، وقد ترافق مع ذلك الارتداد عن مسألة الديمقراطية نقاش حول هوُية الوطن السوري، وأصبح مألوفاً أن يكرر بعض المشاركين جملة أن "معظم السوريين هم مسلمون-سنة"، وكان رهانهم هو رهان السلاح على الأرض، ونشوة تحقيق انتصارات عسكرية، سيتكشّف لاحقاً مدى هشاشة تثبيتها.

إطلاق المفكر صادق جلال العظم مصطلح "العلوية السياسية" أصبح مستنداً لكثيرين في نقاشهم للصراع الوطني، ومرجعاً في فهم الصراع، فمفكر بحجم العظم وتاريخه الأكاديمي وضع في لحظة واحدة قيد الاستثمار، لتأكيد حالة صراع ضدي بين الإسلام السني والعلوية، وهو ما أسهم، مرة أخرى، في شد مسألة الهوية نحو الساحة الضيقة لفكرة الهوُية، وأسهم في تكريس الصراع حول بلورة مفهوم الهوية السورية بوصفه صراعاً بين أكثرية دينية وأقلية/ات، وجعله صراعاً أعلى، ما يعني بالضرورة تخفيض مستوى العوامل المؤسسة للهوُية إلى درجات أدنى.

إن الاعتراف بالتنوع الإثني والديني في سوريا شيء، وجعل هذا التنوع أساساً للصراع هو شيء آخر، كما أن وضع هذا التنوع بوصفه معطىً تاريخياً في مستوى الضدية يجعله مصدر انقسام، لا سبيل إلى تجاوزه، وما هو أخطر أن الذهاب في هذا المنحى كان من شأنه أن يضعف من قوة العوامل التي نشأ بفعلها الصراع الوطني، ويجعلها بالتالي مجرد ذكرى في لوحة الثورة السورية، وتاريخ سوريا في ظل الجمهورية الثانية.

لقد بات مكرراً أن السلطة السياسية في سوريا قامت باستغلال كل الممكنات من أجل تغييب عوامل الصراع الحقيقية، بل ودفعت بقوة، وبشكلٍ ممنهج، نحو إظهار مدى تمسك بعض أفرقاء المعارضة بالمقولات والشعارات والأفعال التي تظهر مرجعياتهم الهوياتية، بوصفها مرجعيات أعلى من الهوُية الوطنية، وبالتالي تغطية سلوكها التدميري للبلدات والمدن، ورفضها لمنطق التفاوض، وتقديم بند مكافحة الإرهاب على أي بند آخر، في مؤتمرات جنيف.

لكن، وبعيداً عن سلوك السلطة السياسية، وهو سلوك مفهوم انطلاقاً من انعدام وطنيتها وأخلاقيتها، فإن سياق التموضع في صراع الهُوية/ات، والبذخ في الترويج له، أسقط فرصة نقاش الهوُية السورية، والتي لم تلقَ الاهتمام المطلوب فكرياً وسياسياً وثقافياً، من قبل النخب الفكرية والسياسية والثقافية السورية، وقراءة سياق تشكلها منذ تأسيس سوريا في عام 1920، وما الأسباب التي وقفت وراء صعود الهوًية الوطنية تارة، وتراجعها تارة أخرى، وكيفية العمل على أن يصب الصراع الوطني في مصلحة تشكّل هوُية سورية جامعة، وجعلها مرتكزاً رئيساً في أي دستور مقبل.

 ثمة وعي مقلوب لدى النخب السورية المعارضة بمسألة الهوُية، فالصراع الوطني هو صراع سياسي بامتياز، والهدف الرئيس من أي انتفاضة، أو ثورة، على نظام مستبد وأمني وفاسد.

 ثمة وعي مقلوب لدى النخب السورية المعارضة بمسألة الهوُية، فالصراع الوطني هو صراع سياسي بامتياز، والهدف الرئيس من أي انتفاضة، أو ثورة، على نظام مستبد وأمني وفاسد، هو توليد نموذج مضاد، يفسح المجال أمام إعادة تشكيل الوطن والمصالح، ويسهم في بناء هوية وطنية، بدلالة الأمة، آخذاً بعين الاعتبار التنوع الثقافي لمكوناتها، ليس بغية تكريس الانقسام الهوُياتي، بل للاستفادة من الغنى والتنوع الحضاري لمكونات الأمة.

 هناك أيضاً أزمة هوية، لكن أية هوُية؟

الهوُية الوطنية هي المأزومة، فقد عرف مسار تشكّل الهوية السورية نكسات كبرى، منذ خمسينيات القرن الماضي، وأسهمت فيه تيارات فكرية وسياسية متنوعة، لكن معالجة أزمة الهوُية لا يمر عبر تكريس الهويات الفرعية، وإنما بمعالجة أسباب الأزمة نفسها، وأزمة النظام السياسي، وأزمة بناء الدولة، وأزمة عقد اجتماعي، وغيرها من الأزمات، ومن بينها أزمة النظام الاقتصادي.

إن المطّب الكبير الذي وقعت فيه النخب المعارضة هو مطّب تحويل النضال من أجل حل أزمة الهوُية الوطنية في سياق سياسي ودستوري جديد، إلى صراع هوياتي بين هوُيات فرعية، أسهم في تعميق أزمة الهوُية الوطنية نفسها، وكرّس شروخاً جديدة، لن يكون بالإمكان تجاوزها بسهولة، ومن دون تحقيق شرط الفاعلية الفكرية والسياسية المؤسس لهوُية وطنية جامعة، بصيغتها الحديثة، أي صيغة الدولة/ الأمة.