صدام بين البعث وسوريا واقتصار الأضرار على الماديات

2018.10.15 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يقول مطلعون إن بشار الأسد عندما كان حراً، بعيداً عن الأضواء، قبل أن يوضع على سكة التوريث، كان يفضّل الأفكار القومية السورية على منهج البعث الذي سيصبح أمينه العام. ويبدو أنه لم يكن نموذجاً نادراً بين سلالات بعثيين قدامى ومسؤولين كبار في دولة الأب، مال بعض أبنائهم إلى «السورية» بعد أن ضجروا، مثل أغلبية ساحقة من السكان، من الخطاب المتقادم للبعث وتجهم ممثليه. ويضاف إلى ذلك، في حالة أبناء نخب السلطة، قتل رمزي محدود للأب، أو انزياح عنه إلى خيار «شقيق» ضمن البيئة الاجتماعية-السياسية نفسها.

ففي سورية لا يمكن فصل الحياة الحزبية عن قواعدها البشرية الطائفية والقومية والمناطقية، منذ بدء نشوء التجمعات السياسية قبل حوالي مائة عام وحتى الآن. يبدو هذا بديهياً في حالة الأكراد، ومفهوماً في جماعة كالإخوان المسلمين، غير أنه يتجاوز ذلك إلى أحزاب ماركسية، مثلاً، تقدّم نفسها كمجموعات علمانية لمواطنين مفردين دون النظر إلى خلفياتهم الدينية أو القومية، ومع ذلك فقد توزعت، أو انقسمت، على خطوط صدوع أهلية تشفّ عنها الخلافات الآيديولوجية المعلنة.

يعلم متابعو الحياة السياسية السورية هذا، كما عرفته أجهزة الأمن جيداً. إذ كان عليها أن تبحث عن المتهمين بالانتماء إلى «حزب البعث العراقي» في دير الزور والرقة والمنطقة الشرقية، وعن منتسبي «حزب العمل الشيوعي» بين أبناء الساحل وسلمية، عن الأوجلانيين في عفرين والبارزانيين في القامشلي، عن الإخوان في حماة وحلب وعن السلفيين الجهاديين في أرياف العرب السنّة، عن أتباع رفعت الأسد بين العلويين وعن شركاء عبد الحليم خدام في بانياس ودمشق... إلخ. لا تحصر هذه الخريطة الأحزاب والحركات بشكل تام، بالطبع، غير أنها تقدّم دليلاً ذا مصداقية عالية، مع وجود دائم للاستثناءات والامتدادات الثانوية هنا وهناك.

فضلاً عن هذه السمة الهامة، أضيفت إلى معالم الحياة الحزبية في سورية صفة لافتة منذ ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، في ما أرى، هي تراجع الالتزام الحزبي المنظم لصالح سباحة طيف واسع من الأشخاص في فضاء هذا التوجه أو ذاك، مما حوّل الأحزاب إلى تجمعات محورية قليلة المنتسبين تحوم حولها أعداد أكبر بكثير من الأنصار والمتعاطفين دون عضوية. لم يحدث التحول الأخير بسبب خطر الانتماء إلى أحد هذه الأحزاب فقط، ومعظمها محظور ومراقب بنسب متفاوتة، بل أيضاً بسبب ضعف القناعة ببناها المتخشبة، والإحساس بانعدام أفق التغيير، وتساوقاً مع حالة عالمية من تصاعد الفردية وتراجع حديدية الحزب لصالح رحابة «التيار».

لعقود طويلة تحت حكم الأسدين كانت الأحزاب السورية في حالة موت سريري

لعقود طويلة تحت حكم الأسدين كانت الأحزاب السورية في حالة موت سريري، سواء سجّي جثمانها في «الجبهة الوطنية التقدمية»، التي تحكم البلاد شكلياً، أو حافظت على نشرتها السرية وعلى بضع مئات من الكوادر العنيدين قليلي الفاعلية. لكن التيارات السياسية غير المنظمة كانت أوسع من ذلك بكثير، إذ كان من السهل ملاحظة أعداد كبيرة من الشيوعيين السابقين أو ما بعد الماركسيين، كما راج أن قواعد الطبقة الوسطى المدينية جمهورٌ عريض جاهز لحركة إسلامية معتدلة لطالما حُدِّدت بأنها الإخوان لعدم وجود بديل. وفي الساحة الكردية كانت فاعلية الأحزاب التقليدية تترهل والعضوية فيها تتراجع دون الانفكاك عن فضائها السياسي والإعلامي. وحده حزب البعث كان «ينمو»، بعد أن تحول الانتساب إليه إلى خيار شبه إجباري في المدارس، وصارت ورقة عضويته شرطاً لشؤون حكومية، مثلها مثل وثيقة اللاحكم عليه والتبرع بالدم والصور الشخصية والطوابع.

دون اهتمام بالأحزاب والسياسة خاض النظام معركته ضد الثورة. فهي حرب وجودية لا تُترك لفصائل شبه آيديولوجية، صغيرة وذات أصول مدنية، مثل «الحرس القومي العربي» و«نسور الزوبعة» و«كتائب البعث». أما الآن، حين أخذ يظن أنه يصنع سلمه ويستعيد دولته، فقد برزت تناقضات قاعدته البشرية بين تيارين عريضين هما البعث وامتداده العربي من جهة، و«سوريا» المعتدة بنفسها والمكتفية بذاتها من جهة أخرى. وقد عبّر التياران عن نفسيهما في مناسبات عديدة، آخرها ما حصل الشهر الماضي من تضارب عارم في الرأي بشأن مرسوم تنظيم عمل وزارة الأوقاف.

لا يتواجه البعث و«القومي السوري»، هنا والآن، كحزبين بمواصفاتهما الأصلية كما في الخمسينات، بل كتيارين فضفاضين تكيفا مع الأمر الواقع. فقد انكمشت مظلة البعث ليأرز إلى كونه حزباً سورياً ذا توجه عروبي، كما تدل قرارات اجتماع لجنته المركزية الأخير التي توّجت مساراً تراكمياً طويلاً. وفي المقابل، قلّص العدد المتزايد باطراد من القوميين السوريين غير المنظمين جغرافيتهم المحورية إلى حدود سوريا الحالية، مع امتداد لبناني عضوي يشمل «المقاومة» وجمهورها وحلفاءها فقط كما يبدو.

يطرح التيار السوري نفسه أشد «علمانية»، وممثلاً أكثر حصرية لدماء «الشهداء»

علام الخلاف إذاً، وقد توافق الطرفان على «سوريا»؟ إنه على طريقة حكمها وعلى حصة المكونات الأهلية فيها. يطرح التيار السوري نفسه أشد «علمانية»، وممثلاً أكثر حصرية لدماء «الشهداء» الذين قدمتهم هذه القاعدة الاجتماعية لتثبيت النظام. ومن هنا فقد ظهرت هذه الأصوات بين علويين بالدرجة الأولى، ومسيحيي أرياف بنسبة أقل، في مواجهة التيار المدافع عن المرسوم والذي يُنظر إليه على أنه من السنّة الذين «اخترقوا» البعث وسيطروا عليه بحكم توسعه الكمّي دون كيف، وترقّي الأصوليين في هرمه. بينما يحاجج هؤلاء، وفيهم علويون «مسؤولون» أو مرتبطون بالأمن، أنهم ينافحون ببساطة عن «الدولة» ومؤسساتها ورئيسها.

في الحقيقة، لا يخلو الكلام الأخير من وجاهة. فأحد وجوه الخلاف هو أنه صراع بين منطق الدولة إذ يضطر النظام للحفاظ عليه لتوازنات داخلية وأسباب خارجية، وبين عقلية التشبيح التي تسود قاعدته الصلبة والتي ترى أن الدولة ومقدراتها وسياساتها الداخلية غنيمة مستحقة، وأن على قوانين السلم أن تشرعن مزاجها الانتصاري في الحرب التي تظن أنها انتهت!