شرقي الفرات

2018.12.17 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

صادف، قبل سنوات، أنني رأيتُ، في محطة انطلاق باصات السفر في مدينة قونية، وداعاً صاخباً لمجند تركي انتهت إجازته عند أهله ويستعد للعودة إلى قطعته العسكرية. لم تسبق لي مشاهدة وداع مشابه في سوريا. السوريون يعودون إلى مواقعهم العسكرية بلا أي ضجيج. في حين كانت أصوات الطبل والزمر والأغاني التركية الحزينة تملأ محطة الباصات في قونية، ويرفع المجند على أكتاف الشبان المودعين، وتلتقط معه صور وداعية، في حين تنهمر دموع الوداع من عيون نساء عائلته. مشاعر متناقضة كانت تسيطر على مراسم الوداع الشعبية هذه، تتراوح بين الفخر والخوف والحزن. الخوف من أن ابنهم قد لا يعود، فلن يروه مرة أخرى.

تعود تقاليد وداع المجندين، في بر الأناضول، إلى "السفر برلك" أي الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتفكك الإمبراطورية العثمانية، حين كان المجندون، في إطار التعبئة العامة، يقتادون إلى اليمن وغيرها من جبهات القتال، فلا يعودون منها. في الفلكلور التركي أغانٍ كثيرة تتحدث عن تلك المأساة، تقول كلمات إحداها:

هنا موش/ طريقها طلعة/ من يذهب لا يعود/ ترى لماذا؟

هنا وان/ طريقها وعرة/ من يذهب لا يعود/ ترى لماذا؟..

وهكذا تمضي مقاطع الأغنية الشعبية، ذاكرةً مدن الأناضول النائية، ومكررة لازمة أن من يذهبون لا يعودون.

لذلك كان أحد شعارات مصطفى كمال "سلام في الوطن، سلام في العالم" بمثابة بوصلة للسياسة الخارجية التي كان يأمل أن تلبي توق الشعب الذي أرهقته الحروب والمجاعة إلى سلام يضمدون فيه جراحهم. (للمفارقة، سيكون هذا الشعار هو عنوان البيان الوحيد الذي أصدرته المجموعة الانقلابية ليلة 15 تموز 2016! لكن هذا يقع خارج حدود هذا المقال).

أما سبب استمرار تقليد وداع المجندين الصاخب، إلى اليوم، فمرده الحرب الداخلية المستمرة، بصورة متقطعة، منذ 34 عاماً، بين القوات المسلحة التركية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبلغت كلفتها على الطرفين أكثر من أربعين ألف قتيل. تلك الحرب التي بدا، قبل بضع سنوات، أنها انتهت، في إطار مشروع الحل السياسي الذي قادته حكومة حزب العدالة والتنمية، واستجاب له الحزب الكردستاني

الترقب بشأن "عملية شرقي نهر الفرات" هو الذي يطبع مناخات الرأي العام في تركيا، بعدما انتقل الأمر من تهديدات متفرقة وعامة، إلى ما يقترب من تحديد موعد العملية

وواجهته السياسية، اندلعت مجدداً، في صيف 2015، فحصدت مزيداً من الأرواح، وخلفت دماراً كبيراً في عدد من مدن جنوب شرقي الأناضول ذات الغالبية السكانية الكردية، ونزوح مئات آلاف المدنيين إلى مدن ومناطق أكثر أماناً.

انتهت تلك الحرب، في فصلها الساخن فقط، لكن فصلها البارد ما زال مستمراً. أما تلك الآمال الكبيرة، في ربيع العام 2013، باستتباب حل سلمي لهذا الصراع الدموي، فقد ذهبت أدراج الرياح. ثم كانت حملتا "درع الفرات" و"غصن الزيتون" لتنتعش مجدداً روحية "سفر برلك" والحرب ضد "الكردستاني" في الوجدان الشعبي.

أما اليوم، فالترقب بشأن "عملية شرقي نهر الفرات" هو الذي يطبع مناخات الرأي العام في تركيا، بعدما انتقل الأمر من تهديدات متفرقة وعامة، إلى ما يقترب من تحديد موعد العملية، وذلك في تصريح الرئيس أردوغان، يوم الجمعة الفائت، حين تحدث عن "أيام معدودة" على انطلاق الحملة الجديدة.

لاقت تصريحات أردوغان أصداء فورية من مسؤولين أميركيين، حذروا تركيا من عواقب تلك الحملة المرتقبة. وقبل ذلك كانت هناك اتصالات كثيفة بين الجانبين، من المحتمل أن البند الأبرز على جدول أعمالها كان عملية شرق الفرات، منها زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان إلى واشنطن، وزيارة مسؤول الملف السوري في الإدارة الأميركية جيمس جيفري إلى كل من أنقرة وغازي عنتاب.

يستثمر الرئيس التركي، في اندفاعه هذا، في خشية الولايات المتحدة من تعميق التحالف الظرفي بين أنقرة وموسكو، فيزيد من الضغط على واشنطن في موضوع تخييرها بين الحليفة الأطلسية (تركيا) ووحدات حماية الشعب التي تعتبرها

تدور التكهنات حول منطقتين فقط من شرقي الفرات، كهدفين محتملين للحملة العسكرية التركية المرتقبة، هما تل أبيض شمال محافظة الرقة، ورأس العين في أقصى الشرق

تركيا منظمة إرهابية. في حين تلجأ واشنطن إلى امتصاص الاندفاعة التركية، بتسويف المشكلات العالقة أو بتقديم وعود أو تنازلات صغيرة. لم يصدر أي توضيح بشأن مضمون المكالمة الهاتفية التي جرت، قبل يومين، بين ترامب وأردوغان، وموضوعها عملية شرق الفرات. الطرف الكردي ليس مطمئناً من حليفه الأميركي، وهو ما يعني أن احتمال تقديم واشنطن "شيء ما" لأنقرة مقابل تخليها عن "الكل" ما زال احتمالاً وارداً. تدور التكهنات حول منطقتين فقط من شرقي الفرات، كهدفين محتملين للحملة العسكرية التركية المرتقبة، هما تل أبيض شمال محافظة الرقة، ورأس العين في أقصى الشرق. وذلك لأن الأولى ذات غالبية سكانية عربية، والثانية خليط أقرب إلى التوازن. فهل يقدمهما ترامب لأردوغان لامتصاص الضغوط التركية، أم يقدم له هدية ترضية في منبج؟ لا أحد يمكنه التكهن الآن.

يبقى أن اعتبار تركيا وجود حزب الاتحاد الديموقراطي، وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب، خطراً على الأمن القومي التركي، هو مجرد امتداد لفشل تركيا في حل مشكلتها الكردية في الداخل، وذلك بالنظر إلى أن "الحزب" و"الوحدات" لم يقوموا، طوال سنوات سيطرتهم على المناطق المحاذية للحدود، بأي عمل عسكري ضد تركيا، إلا كلما تعلق الأمر برد على قصف مدفعي تركي. أما إذا كان الأمر يتعلق بتوجس تركي من قيام كيان فيدرالي أو إدارة ذاتية كرديين على حدودها الجنوبية، بالانطلاق من هواجسها الداخلية، فلا شيء يمكن أن يطمئن تلك الهواجس إلا العودة إلى مسالك الحل السلمي، بالعودة إلى شعار أتاتورك: "سلام في الوطن، سلام في العالم".