شبيحٌ من أهل الله

2018.08.08 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قبيل وفاة والدة صديقي رامي بأيام كانت تردِّد عليه وصيتها دائماً: "الله يرضى عليك يا رامي لا تنسَ الأولاد"!

"برضاي عليك يا رامي بدي أموت وقلبي مطمئن إنو عم تعاملوهم بعد مماتي متل ما كنت أعاملهم في حياتي".

"يا رامي دير بالك على عمار وقاسم ومصطفى، وبقية الشباب. هدول إخوتك، وببركتهم الله بدو يحن عليّ وعليكم. كل ما طبختوا أكلة طيبة تذكروهم"!

كانت الأم تسكن في آخر حي (شارع النيل) بجانب السوق المحلي، وكانت تقصد بالأولاد تلك الشلة من الشباب (مجهولي النسب) ممن تخرّجوا من دار الأيتام، واتخذوا من (السوق المحلي)، ومن حديقة جامع قتيبة بجانبه مأوى لهم.

لم يكن بين (السوق المحلي) ودار الأيتام الملاصقة لفرع الأمن الجوي سوى الأوتستراد المتحلق الفاصل بين شارع النيل وجمعية الزهراء. اختار هؤلاء الشباب هذا السوق ملجأً لهم ليظلوا قريبين من موئلهم الأول، ومن عائلتهم: (طلاب دار الأيتام، وموظفيها)، ولأن بعضهم كان يعمل في المجمع الصناعي خلف دار الأيتام.

بعد استلامي إدارة دار الأيتام في سنة 2006 حوّلتْ لي موظفة المقسم اتصالاً من السجن المركزي في حلب،

كان تشرده طوال هذه المدة مضبوطاً مؤطَّراً آمناً مريحاً، لكن بعد مغادرته الدار غدا تشرده محض قهر وشقاء وتعب، وحرمان من أعظم النعم، نعمة العائلة والنسب.

وكان المتصل عمار. ناشدني أن أسعى للإفراج عنه. وعدته خيراً. وطلبت إضبارته من أمانة السر، لأعرف سيرته:

قبل أن يفتح عينيه احتضنه التشرد، بدءاً من الرصيف الذي التُقط منه، ثم المخفر الذي ضبط الواقعة، ومروراً بجمعية كفالة الطفولة التي عاش فيها حتى سن السادسة، وانتهاءً بدار الأيتام التي غادرها قبل مجيئي بسنة ونصف.

كان تشرده طوال هذه المدة مضبوطاً مؤطَّراً آمناً مريحاً، لكن بعد مغادرته الدار غدا تشرده محض قهر وشقاء وتعب، وحرمان من أعظم النعم، نعمة العائلة والنسب. قبل مغادرته الدار مرت أمهات على رأسه بعدد شعر رأسه! في وردية الصباح أم، وفي وردية المساء أم، وفي وردية الليل أم، ومرّ عليه آباء بعدد المشرفين والمتطوعين الذين أمّوا الجمعيتين على مدار ثمانية عشر عاماً، وكان له إخوة من الطلاب بالمئات.

وبعد مغادرته الدار اكتشف أنه عندما تكون كل النساء أمهاتك، وكل الرجال آباءك، وكل الأطفال والشباب إخوتك، فهذا يعني أنه لا أم لك، ولا أب، ولا إخوة.

وفي إحدى حالات عوزه أقدم على السرقة، ولأنها بدافع الفاقة فقد كانت مضمّخة بالسذاجة، ومسخّمة بالارتجال، وبكل يسر قُبض عليه، وحوكم، وسُجن بأقصى سرعة، وكأنه فسيلة بيد الشرطي والقاضي والسجّان، ويجب أن يسارعوا في زرعها في السجن قبل أن تقوم عليهم الساعة.

بعد حوالي السنة خرج عمار، وبدأت معرفتي به. كانت ملامح وجهه في تلك الفترة قاسية. كانت لحيته كثة، تُترك لعدة أيام بلا تهذيب ولا تشذيب، وكان شعره جثلاً مشعّثاً مغبراً، لكن كان في عينيه طيبة ممزوجة بأسىً، ويدعم ذلك صوت هادئ متطامن حين يحدثك لتواسيه أو تسليه.

أخبرني أن المصادفة هي أمه وأبوه، وأن وجوده مرهون لها. حياته. إيداعه في مؤسسة كفالة الطفولة. انتقاله إلى دار الأيتام. إخفاقه في دراسته، وفي عمله. سرقته. القبض عليه. محاكمته. كل ذلك مصادفة. لذلك كان يرفض الحلول والمقترحات والخطط والعمل! لم يكن يثق إلا بالمصادفة.

كان في حالة ضياع دائم. وفي حالة تشوش واضطراب: إيمان ونكران! كفر وتسبيح! لين وقسوة! جبروت وانكسار! أمل في العزة والكرامة، واستجداء وتذلل! ولكن يبقى الفقدان الأكبر والنشدان الأعظم هو للاعتبار. لقد كان فاقداً الاعتبار، وكأنه في عالم العدم.

وبمحض المصادفة أيضاً بدأ يشق طريقه نحو عالم النجومية في مدينة حلب، ليغدو أحد أبرز مشجعي نادي الاتحاد. تلقفه أحد مشجعي النادي المناكيد، وشكّله كما يشاء، وصيّره أشهر شخصية مشجّعة في الملعب. حلق له شعره على الصفر، وترك له جمة في المقدمة والوسط، وصبغها باللون الأشقر مرةً، وبالأحمر مرةً أخرى، وغدت مهمته حمل علم نادي الاتحاد، ورفعه عالياً، والركض به أمام الجمهور، وإذكاءهم بالحماسة، ثم تخطي الحاجز، والنزول إلى أرض الملعب، وههنا كانت تجري مطاردات عناصر حفظ النظام المليئة بالإثارة، وكان عمار، بكامل الخفة واللياقة والسرعة والمناورة، يتخطى هؤلاء العناصر، ويراوغهم وسط عصف قرع الطبول، ونفخ الأبواق، وضرب الدربكات، والصفير، والصياح، والهتاف بلقبه الجديد: (عفوشة) نسبةً إلى لاعب نادي الاتحاد الشهير محمد عفش. وكان حين يأخذ التعب منه مأخذه تمسك عناصر حفظ النظام بتلابيبه، فتتوحد حناجر الآلاف المؤلفة حول كلمة واحدة تدعوهم لتركه وعدم مساسه:

عيفو... عيفو!

عفوشة... ها ها!

عفوشة... ها ها!

وكان العناصر يتركونه وسط أجواء الضحك، والحماسة، والبهجة، والاستثارة، لأن حركته هذه غدت من طقوس ما قبل بدء المباريات! يطلّ على الجمهور بجمته الذهبية وشعره المحلوق على الصفر، أو بباروكته الشقراء التي يرتديها فيشبه إلى حدٍّ كبير المغنية الصبوحة.

أخيراً وجد اعتباره!! آلاف مؤلفة يسلمون عليه، ويحيّونه، ويلوحون له بأياديهم، وينادونه: عفوشة! عفوشة! ليرمقهم بنظرة، ويضيّفونه الكازوز، أو الصندويش، أو الآيس كريم، وبعد انتهاء المباراة، وذهاب كل مشجع ومتفرج إلى بيته كان عفوشة يرجع إلى مأواه، وكأنه خزان فخر واعتزاز يمشي، ولكن هذا الخزان كان يثقب، فيُهدر كلّ ما فيه بمجرد أن يتذكر المأوى الذي ينتظره، فيمشي متثاقلاً، ويجر رجليه جراً، إلى أن يصل إلى الدهليز في السوق المحلي، فيلقي التحية على إخوته ورفاقه، أو يتجه مباشرة إلى طراحته في صمت ووجوم. وهو يفكر في الاعتبار الهائل الذي كان يحوزه قبل ساعة، وكيف تلاشى الآن فجأة، وعاد مجرد مشرد نكرة.

كان هؤلاء الأطفال والشباب يلاحظون عيون أهالي الحي ونظراتهم المتضاربة، فبعض الأهالي كان يراهم مجرد أطفال وشباب مظلومين، فيقابلونهم بالعطف والود وجبر الخاطر، والتجاوز عن حماقاتهم أو حتى رذالاتهم، في حين كان بعضٌ آخر يراهم صورة أنموذجية للمتشرد المستهتر الذي يجب الحذر منه، فيجبهوهم بالامتعاض والتجهم وصولاً للاشمئزاز.

مع بداية الثورة في 2011 بدأ الأهالي يسحبون أبناءهم من دار الأيتام، فقد غدت أشبه بالثكنة العسكرية! وضع جيراننا من فرع الأمن الجوي الدشم ومراصد الحرس ومدافع الهاون فوق مبنى المنامة، ومبنى المطبخ والمطعم، ومبنى المدرسة، ولم يبق سوى قلة قليلة من الطلاب الأيتام، أما الطلاب الأطفال مجهولو النسب فظلّ صغارهم في الدار لم يبرحوها، بل تنقّلوا معها من حي الزهراء، إلى حي الأشرفية، إلى حي المارتيني، وأخيراً إلى حي الرازي. وأما الكبار منهم فغادروها، قسم منهم إلى السوق المحلي حيث يقطن إخوتهم الأكبر منهم، وقسم آخر أسعفه الحظ بمغادرة البلد، إلى تركيا، ولبنان، والسودان.

أما عمار الذي أنهى خدمة العلم فيُقال بأنه عاد للتطوع في الجيش، ويُقال بل تلقّفه بمحض المصادفة أبو علي قزق كبير شبّيحة حلب، وضمه لمجموعته، وكان أبو علي من أبناء ريف جبلة. سكن حلب قبل اندلاع الثورة بثلاث أو أربع سنوات، ليكون عين رامي مخلوف ويده في هذه المدينة. وكان أول المبادرين لتشكيل اللجان الشعبية، فاستقطب المشردين، والمعفو عنهم من السجون، ومن لفّ لفّهم، بالإضافة إلى مشايخ العشائر الذين زجّوا بأبناء عشائرهم في تشكيلاته ومجموعاته.

كان يمكن لعمار أن يتلقفه أيضاً خالد الحياني أو أحمد عفش أو حجي مارع، ولكن المصادفة جعلته من نصيب شبيحة أبو علي!

كانوا يضعونه في مقدمة المهاجمين والمقتحمين في المعارك التي تحتدم في أطراف حلب الجديدة، ودوار الليرمون، والراموسة، والراشدين، وكان في كل معركة وبعد أن يثور الغبار وتنعدم الرؤية يقول رفاقه المختبؤون: أكيد لقد قُتل عمار، ثم بعد ساعتين أو ثلاث يخرج لهم من بين سحب الدخان والغبار حاملاً الكلاشينكوف، ضاحكاً متهللاً، فيُقابل بالتصفير والتهليل والتكبير. ويُعاد له الاعتبار الذي افتقده منذ أن خفت لهيب المباريات وانطفأ، وتكررت هذه الحالة مرات، حتى ساد اعتقاد أن عمار فعلاً من أهل الله، وصار أبو علي نفسه يقول: إنّ الله ينصرنا ببركة عمار! إنه من أهل الله. وكما تعلمون فإن أبو علي كان علوياً، والعلويون يؤمنون بالأولياء والصالحين وأهل الله، والمقامات والمزارات، حتى إنهم أطلقوا على رجال الجيش العربي السوري رجال الله أيضاً.

وفي بداية شهر تموز 2013 على مشارف حي الراشدين كان عمار يلف ويدور في حومة الميدان،

تلقى عمار رصاصة في رقبته فأخرجته خارج الملعب، وفي اليوم نفسه نعاه مشجعو نادي الاتحاد، وشبيحة حلب، وإخوته من الأيتام، ومن مجهولي النسب.

وكأنه في الملعب البلدي في الفيض، أو في الملعب الدولي في الحمدانية، وكان يظن أن أصوات القنابل والقذائف والصواريخ قادمة من الطبول والأبواق والدربكات، وأن الرصاص المنهمر الذي يلفه ويحاصره هو عناصر حفظ النظام التي تلاحقه ضاحكةً لتقبض عليه، وتضعه خارج الملعب.

وتلقى عمار رصاصة في رقبته فأخرجته خارج الملعب، وفي اليوم نفسه نعاه مشجعو نادي الاتحاد، وشبيحة حلب، وإخوته من الأيتام، ومن مجهولي النسب، وكتب أحد معارفه: (الله يرحمك يا عفوشة. لك يا عرص لسا إمبارح أو أول إمبارح شفتك! لا بصغرك انبسطت، ولا بكبرك انبسطت).

كلمات مفتاحية