شبح هاملت في مدينة حلب يطوف على أنقاضها

2019.05.28 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بداية يجب الاعتراف أن الكتابة عن الفيلم الوثائقي" جِلْدٌ " للمخرجة السورية عفراء باطوس لم تكن سهلة أبداً . الفيلم من حيث الظاهر يبدو فيلماً بسيطاً مبنيا على شكل مذكّرات لفرقة مسرح مكونة من هواة ( حسين ، صبحي و عفراء ) شغفهم الأول تغيير العالم من خلال المسرح . لكن فيما بعد تتطور الأحداث ليختلط فيها الواقعي بالمتخيل. فالتنقلات بين الأداء والنصوص المكتوبة كان يتم كتمازج الزيت بالماء. لانعرف ماهي الحقيقة و ما هو المسرح.

هذه الفرقة تحضّر لعرض مسرحي بالسر خوفاً من الرقابة.. لكن هذا العرض لا يتم بسبب اندلاع أحداث الثورة و التي تغير كل شيء بعدها. هنا وجدنا أنفسنا أمام فيلم تتداخل فيه مستويات متعددة من العوالم ونتساءل، ماذا حصل بالنص المسرحي، وماهي مصائر أبطاله، و إلى أين تسير البلد في ظل التغيرات السريعة القادمة؟ الفيلم بإيجاز أشبه ما يكون بيوميات الثورة ولكن بطريقة جديدة.

تقول الحكاية إن فتاة في مدينة متداعية وقعت يدها على نص مسرحي اسمه (ماكنة هاملت) لمؤلفه الألماني هاينر موللر.

تقول الحكاية إن فتاة في مدينة متداعية وقعت يدها على نص مسرحي اسمه (ماكنة هاملت) لمؤلفه الألماني هاينر موللر

المرأة التي تهوى هاملت هذه المرة اسمها عفراء باطوس ولدت في مدينة حلب، تكاد تكون  أوفيليا السورية، التي تعشق المسرح وتبحث عن نص مناسب بينما السكود القاتل وقاذفات السوخوي تخترق سماء المدينة.

في صورة (كلوز آب) قريبة لوجهها وهي ممددة على شاطئ رملي، نسمع بضع كلمات من رسالتها المفترضة إلى الكاتب المسرحي المتوفى هاينر. تبتدأ المخرجة ذكرياتها عن مدينة حلب بهذه الكلمات:

 

" ثورة ..أجل إنها ثورة ...أصغ إليّ الآن "

 

هذا المشهد يبدو كأنه بطريقة ما محاكاة لمقطع من مقاطع مسرحية هاينر الشهيرة ( هاملت ماشين ) الذي يبدأ بـ

«كنت هاملت.. وقفت عند الساحل وتحدثت مع الأمواج هراءً، خلف ظهري خرائب أوروبا، افتتحت النواقيس مراسم الدفن الرسمية، القاتل والأرملة شريكان وخلف الجنازة يسير المستشارون بخطوات عسكرية ويذرفون الدموع في حزن رخيص الثمن»

في عنوان ملتبس للفيلم مثل "جِلْدٌ" تثير المخرجة العديد من التساؤلات عن مضمون هذا العنوان، عن رمزيته وعن دلالاته، و لكن فيما بعد يأتينا الجواب الصادم، ونفهم لماذا اختارته، عندها نكون قد أدركنا قاع الألم في المأساة السورية.

عفراء في هذا الفيلم ستكشف لنا وبالتدريج عن الخرائب التي خلّفها نظام الأسد في هذا الوطن وعن ذلك الوحش المنفلت من عقر داره في قصر المهاجرين بدمشق.

 

زمانية الثورة ومكانيتها

في غرفة سوداء لانسمع فيها سوى صوت التشويش من شاشة تلفزيون مركونة في غرفة مظلمة، و نسمع كلاما باللغة الإنكليزية من أرشيف غير واضح فيه كلمات عن انتفاضة ما تمت أحداثها في دولة غربية ولكن لانعرف أين بالضبط، تتجول الكاميرا بين الغرف، فوضى تعم المنزل، ثلاث قطط تائهة تتجول بكسل و عبر النافذة نسمع  تكبيرات العيد تأتي من بعيد.  على الحائط  بوستر لفرقة مسرحية اسمها:

 " الحلم العظيم " Great dream

 (حسين) شاب في أواخر العشرينيات من عمره يجهز الحمّام بصعوبة في ظل انقطاع مستمر للكهرباء و الماء في المدينة.

في مشاهد جمالية بلغة بصرية متقشّفة نرى قطرات من المطر على حبل غسيل في شرفة لبيت متروك في حي شعبي.

 أجواءُ الصمت تلف حواري المدينة، هناك نشاهد حسين الممثل المسرحي يجلس وحيداً في كرسي مطّل على ركام بناية مدمرة، يبحر بنا في دهاليز ذاكرته لينقلنا إلى الماضي، إلى فترة ازدهار الحراك السلمي والمظاهرات العظيمة، يوم هتفت حلب لدرعا و هتفت لجوبر و لدوما و لحمص وللمحامين الأحرار. نتابع رحلة الذاكرة إلى أيام لافتات التنسيقيات، لشعاراتها وأعلامها الخضراء الملونة قبل أن تجتاح الثورة موجة الأعلام السوداء. على إحدى اللافتات نقرأ :

 

"السكود.... ولا المذّلة"

وفعلاً تم ذلك. ففي يوم من الأيام قصف النظام حلب بأربعة صواريخ بعيدة المدى من نوع سكود تم إطلاقها من دمشق وقتل ٣٧ شخصاً بينهم ١٩ طفلاً. الذي حدث يومها :

أن "الأطفال كانوا عم يجرّوا قماشة اكتشفوا بعدها انها ليست قماش، وإنما جِلْد لطفل صغير عمره خمس سنوات".

من هنا جاء عنوان فيلم جِلْد، لكن المخرجة لا تخبرنا هذه الحكاية في بداية الفيلم و عوضاً عن ذلك تبدأ فيلمها بطريقة مختلفة تماماً. "بعد ضربة صواريخ السكود ازداد العنف وتلاشت الإنسانية" يقول حسين ذلك ثم يتابع حديثه الغاضب عن تحولات الثورة ( حسين ) يترك المسرح و بدأ يعمل أحياناً مراسل لبعض الجهات الإعلامية خارج سورياـ وفي إحدى مشاركاته الإعلامية) كناطق باسم المجالس المحلية يتحدث مع ( شخص من الحكومة المؤقتة فيستنكر غاضباً المحصصات الطائفية في الحكومة المؤقتة والتهرّب من مسؤولياتها ولكنه يردف قائلاً:

" ستنتصر هذه الثورة و سيحاكمون كما يحاكم الأسد "

 

مصنع الدمى في زمن "سوريا الأسد"

إذا كان أحد أسباب موت هاملت في مسرحية شكسبير هو الصمت عن الحقيقة. فإن صبحي يعرف أيضاً أن "الصمت عن الجريمة قد يحولك إلى مجرم"لذلك لا أحلام عظيمة لديه سوى الهروب من سوريا لإنجاز مشروع خلاصه الفردي.

تصل الطائرة إلى العاصمة اللبنانية، و من الأعلى تبدو بيروت مدينة جميلة ونظيفة.

في شقّة متواضعة يعمل صبحي على تحضير إكسسوارات العرض المسرحي (يخيط الثياب  بيديه ويركّب التيجان الورقية، (تيجان الملوك) كما يسميها، أخيراً أصبح ممكناً لهذه الفرقة أن تعرض عرضها المسرحي الأول في "مسرح بابل"والذي لا تتجاوز كلفته أكثر من ٢٠٠٠ ليرة لبنانية. أي حوالي أقل من دولارين ميزانية العمل، ويعتبر ذلك انتصارا للفريق المسرحي الذي مازال يحلم بعرض مسرحيته رغم كل الظروف. في غرفة مجاورة نسمع صوت الأخبار من التلفزيون عن اشتباكات مسلحة على كافة الجبهات ما بين جيش النظام و الجيش الحر.

إذا كان أحد أسباب موت هاملت في مسرحية شكسبير هو الصمت عن الحقيقة. فإن صبحي يعرف أيضاً أن "الصمت عن الجريمة قد يحولك إلى مجرم

صبحي الذي يصنع الدمى للمسرحية يحاول أن يضفي عليها ملامح رجولية من أكتاف عريضة و شوارب كثيفة، نراه يخاطب مازحاً أحد الدمى قائلاً "أنت رجل رغم أن قدمك مقطوعة ". هذا الميل في إظهار رجولة الدمى يبدو كأنه استعادة رمزية لرجولة مفقودة عانى منها السوريون في ظل نظام تعسفي حاول ويحاول يومياً تحويل الناس إلى مجرد دمى لا روح فيها ولا حياة.

إذا كانت الكاميرا هي عين المخرج وسرّه، فهي من جهة ثانية تفضح علاقاته ووجهة نظره بالكون المحيط به من أشخاص وأشياء وأفكار. في الفيلم اختارت المخرجة  كاميرا متلصصة بحذر، بخوف، بفضول، وبلا أي اكتراث، تبدو من خلالها بيروت مدينة غير آمنة، مدينة مضطربة. لا شيء في بيروت سوى البنايات العالية و البحر.

 

لا شيء في بيروت سوى البنايات العالية والبحر

يجتمع الأصدقاء الثلاثة في بيروت، مدينة الصخب و بقايا الحروب الأهلية، مدينة المسارح و البارات و شارع الحمراء.

بيروت أصبحت مدينة ترانزيت بالنسبة للسوريين، مدينة مؤقتة، علاقات مؤقتة، تتوه الكاميرا لتدور حول نفسها وكأنها مروحة طائرة هليكوبتر. في ليلة وداع صبحي ...تبدو مقاهي بيروت أشبه بأقبية السجون و جسور المدينة أصبحت أشبه بمعابر الموت السورية..كل ذلك مترافق مع موسيقى الراي وأغاني قديمة.

في فيلم عفراء نجد دائما ما يشير إلى (الزمان والمكان الدرامي). إضاءة الفيلم جميلة معبرّة رغم أن معظمها ضوء طبيعي و شريط الصوت مدهش جمالياً و درامياً. تتنوع حركة الكاميرا في الفيلم ما بين كاميرا محمولة متحررة من أي قيد و كوادر "كلوزات" قريبة جداً لشخصيات الفيلم، لتصبح فجأة كوادر ثابتة، صارمة أقرب للموت. هذا التنوع كان جزءأً من تكنيك سرد الحكايات في هذا الفيلم. 

في الدقيقة ٣٨ تعود المخرجة إلى الشط في مشهد بديع أشبه بالكابوس / الحلم .

مشهد مدته ثلاث دقائق لكنه يختصر عمر المأساة السورية. ويكاد يكون هذا المشهد نقطة المنعطف في الفيلم. بعده تُترك شخصيات الفيلم لمصائرها وتغادر مسرح الفيلم ومن ثم مكان الحدث.

صبحي غادر إلى ألمانيا، حسين سافر  إلى فرنسا، وبقيت المخرجة في بيروت بانتظار إنهاء الفيلم.

ها هي أوراق السيناريو مبعثرة، ممزقة ومرمية على الرمال. فتاة تركض باتجاه البحر عارية  القدمين تمشي و تمشي لكنها لاتصل إلى البحر أبدآً.

الثوار الأساسيون ماتوا، المحترمون الكبار ماتوا.. هل كان حسين ابناً لثورة منتكسة؟  

 

فيلم " جِلْدٌ "من كلاسيكيات أفلام الثورة السورية شارك في مهرجانات عالمية مهمة و حاز على جائزة في ألمانيا .