سورية تقول: لن تحكمنا إلا اغتصابا

2018.07.09 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تستلزم عبقرية بقاء الدكتاتوريات رسم خط أحمر يمكِن الحاكم ويدفعه غريزياً إلى ارتكاب أبشع الجرائم بتلذذ؛ ونيرون مثالًاً. لقد رسم حافظ الأسد خطوط بقائه الحمر بتوجيه وخبث واقتدار، ويبدو أنه أورثها إلى ابنه الذي كثفها وطوّرها وزاد عليها خطوطاً جديدة تتمثل ببيع سورية بالجملة لإيران بداية ولروسيا لاحقاً؛ وذلك ضماناَ لبقائه.

قَبْل حافظ الأسد كانت سورية تنام على انقلاب لتصحو على آخر؛ وكانت إسرائيل لاعباَ أساسياَ في ذلك البلاء. فَهِمَ الأسد اللعبة النجسة، فتدبّر أمره معها مقابل أبدية في السلطة دفعت سورية ثمنها الجولان، وضَمِنت إسرائيل أمن "حدودها" الشمالية. إضافة إلى ذلك، كان لا بد من ضمان سلطة الاستبداد داخلياً واقليمياً ودولياً، حيث جرى العمل على هذه الأصعدة بالتوازي.  

داخليا، سعى النظام إلى جعل حتى تنفس السوريين منّة. لقد اختار الأتفه والأرخص والأكثر انتهازية في إدارة البلاد والعباد. لقد صنّع الإمَّعات الجاهزة للفساد والإفساد. ألغى الحياة السياسية، وكرّس عبادة الفرد. بحث حثيثا عن مخاليق تتحدث عن اختصار سوريا بشخص الأسد؛ وتكبير الأسد ليكون سورية. لقد وُجِد في الساحة مؤخرا نسخاً على شاكلته تماما: شخوصاً تمتهن الكذب والأكل والتغوط
لقد ربطت العصابة الحاكمة في سوريا الدولة بالسلطة ؛ فأضحى من ينتقد السلطة غير وطني، وكأنه يمسّ الدولة. ومن لا يقول عن الجيش الذي يذبح السوريين ويرمي عليهم براميل المتفجرات "حماة الديار"، إما خائن أو من القاعدة. لقد أضحت السلامة في سوريا مقابل الحرية والكرامة في عقد غير مقدس يحميه طغيان أمني لا يعرف الله ولا الإنسانية؛ فلو شتم سوري ربه أو كل مقدسات البشرية، ينجو، ولكن أن يذكر سلطة العصابة بما فيها، فقد يختفي عن الوجود.

فأضحى من ينتقد السلطة غير وطني، وكأنه يمسّ الدولة. ومن لا يقول عن الجيش الذي يذبح السوريين ويرمي عليهم براميل المتفجرات "حماة الديار"

يمكن للمرء أن يرى أهل سوريا يعيشون ويتحركون ويسعون وراء الرزق؛ يتشاحنون ويختلفون ويتحابون، وكأنهم بشر طبيعيون، ولكن العصابة ذبحت أرواحهم. ومن هنا أتى قول بشار الأسد لصحيفة "وول ستريت جيرنال" أشهراً قبل اندلاع انتفاضة سورية، وإثر ما كان يحدث في دول عربية بأن سورية لن تشهد ما شهدته تلك الدول. مؤكدا أن في ذهنه أهل سورية مدجنون ومضمومون كـ "جراثيم" /عبارة استخدمها في أول خطاب له بعد الانتفاضة/؛ وهؤلاء تحت الحذاء التاريخي له ولأبيه من قبله.

إقليمياً ودولياً، حوَل الرجلان سورية إلى كيان بلا مشروع، ولكنه كيان عبثي "أزعر" لا يمر مشروع في المنطقة إلا بأخذ موافقته الابتزازية المريضة. (والكل يذكر كلام وليد المعلم بأن مَن يريد التدخل في سورية، لا بد أن يأخذ موافقة "الدولة السورية") أُدير البلد بعقل العصابة، وتحوّل إلى كيان فاشل تحكمه الشخصانية والقبضة الحديدية؛ كيان قلبه مع الغرب، ويده في جيب روسيا؛ يغازل أوربا في لحظة ويمحوها عن الخارطة في لحظة أخرى؛ ينام في العسل التركي في لحظة من أجل إسرائيل، وفي لحظة أخرى يتحول السرير إلى نار مستعرة؛ ومع الدول العربية "الشقيقة"، الهيام والاستثمارات و"التضامن" بلا حدود مع تجار الضمائر والسياسة والحروب. بناءً على كل ذلك كانت يقينية بشار الأسد بأن سورية لن تشهد ما شهدته دول أخرى، وأن أحداً لن ينجر إلى مواجهة مع منظومة لا مكان للقانون أو الضمير أو الإنسانية في حياتها. لقد كانت العصابة تعرف ذاتها؛ وكان الآخرون يعرفونها أيضاً.

أُدير البلد بعقل العصابة، وتحوّل إلى كيان فاشل تحكمه الشخصانية والقبضة الحديدية؛ كيان قلبه مع الغرب، ويده في جيب روسيا

في وجه كل ذلك، وبالتركيز على جوهر الصراع في سورية -بين شعب ينشد الحرية ونظام قمعي تلك هي صفاته- برز في ساحة الصراع هذه، وللأسف الشديد، "معارضة"، في بعض أوجهها، تشبه لوحة، لو أراد نظام الاستبداد رسمها، لما أتت هكذا. البعض يعذر حالها قائلا إن من غُلِّت يده إلى صدره لعقود، سيبقيها إلى صدره مغلولة، حتى ولو فُكَّ وثاقها.
زاد نظام الاستبداد على كل ذلك دعوة الاحتلال الإيراني والروسي لحمايته. أضحى الخارج والداخل والشعبي والمعارضة عوامل جعلت المنظومة تعتقد أن إعادة تأهيلها بعد دمار بلد بأهله وبمستقبله ممكنة؛ ولكن هيهات، فات منظومة الاستبداد أنه من رمادها تقوم الأشياء  وطائر الفينيق السوري يعود إلى الحياة، حتى لو أضحى رماداً…….
إن الخارج الذي تطمأن له منظومة الأسد، واستغلالها زيف تشدقه بالمبادئ الخلبيه أمر لن يستمر؛ فها هو يجد نفسه رغما عنه في المعمعة السورية، مهما حاول إشاحة الطرف عنها، وبفعل غباء العصابة الحاكمة ؛ لأنه مهما ارتفعت درجة الخبث لتصل إلى حدود الذكاء، إلا أن شر الخبث يوقعه وقعة لا مخرج منها؛ وهذا حال عصابة سوريا. ورغم كل الانتكاسات والتخلي العالمي سيكون النبراس الوحيد لعودة انطلاق ثورة سوريا شعبها الصامد وتصميمه على الحرية والحياة. هذا الشعب قد أرسل رسالة إلى منظومة الاستبداد مفادها أنكِ يمكن أن تسحقينني، لكن لن تحكمينني إلا غصباً واغتصاباً. والمغتصب، مهما طال عمره زائل لا محالة.

باختصار، الشعب الذي أرهبته بصواريخك وميليشيات خامنئي وطائرات بوتين ورميت به إلى حدود مغلقة في وجهه؛ والملايين الذين تبعثروا في أربع بقاع الأرض؛ والملايين الذين قتلت فلذات أكبادهم أو حجزت حياتهم وحريتهم في معتقلاتك؛ والشعب الذي شوّهت ودمرت سيادة وطنه وجعلته مستباحاً للاحتلال؛ و"الموالون" الذين زججت بأبنائهم في حرب يقتلون فيها أبناء وطنهم أو يُقتَلون؛ والشعب الذي اعتبرته إرهابي ورخيص؛ والشعب الذي تيقن بأن منظومتك تكذب كما تتنفس؛ والأمرّ والأدهى، الشعب الذي تيقن أن مَن يحمي سلطتك ليس إلا العدو محتل أرض الجولان السورية؛ هذا الشعب - باختصار شديد- لا يأتمنك على حياته أو وطنه أو مستقبله؛ فلن تحكمه إلا اغتصابا. زد على ذلك، أن ثورة عرفت خلال ثمانية أعوام الغث من الثمين، أين أخطأت وأين أصابت، ما لها وما عليها؛ ثورة كهذه ستستمر وتنتصر