سوريا تدفع الثمن

2019.09.12 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مضت ثمانية أعوامٍ ونصف على انطلاقة ثورة السوريين، ومطالبتهم بالكرامة والحرية في مسعى لبناء دولة ووطن، يضمنان حياة كريمة ويوفران الشروط لتنمية حقيقية للناس والبلد، وقد واجه نظام الأسد تلك المطالب، منذ البداية، بشعاره الشهير: "الأسد أو نحرق البلد"، الذي مارسه وطبّقه فعلياً حتى أوصل البلاد كاملة إلى ما هي عليه اليوم: مدن ممزقة ومدمرة، وحدود واهية، واقتصاد استقر في الحضيض، ففي المناطق التي يحكمها النظام، شكلاً، لم يعد له دور سوى تلقي التعليمات من أسياده الروس والإيرانيين، وتوقيع عقود تأجير أو بيع أو رهن أراضي سوريا وثرواتها، مقابل استمرار سيطرته الشكلية التي لن تستمرّ للأبد، على الرغم من كل ما قال وفعل، على الأقلّ بفعل ضرورات استمرار مصالح أسياده.

إدلب اليوم في طليعة المناطق التي تعيش تحت وطأة التهديد بالاجتياح، وقد استعادت روسيا والنظام جزءاً من ريفها الجنوبي بعد تدميره، وهي آخر منطقة من مناطق خفض التصعيد، التي اتفقت عليها الدول الثلاثة (روسيا وإيران وتركيا) في مسار أستانا. هذا المسار المليء بالتناقضات في أساسه، فروسيا وإيران تنظران إلى تلك الاتفاقات على أنها اتفاقات مؤقتة وتكتيكية، للتجهيز والإعداد لهجومات تالية، وما جرى في جنوب سوريا والغوطة وريف حمص مثال واضح على رؤيتهما لتلك الاتفاقات، بينما تنظر تركيا إليها كضرورة للحفاظ على حياة المدنيين وتجنيبهم القتل والتدمير، ولدرء موجات التهجير الجديدة التي تطولها وحدها مباشرة.

تمكنت روسيا، بعد انكفاء الولايات المتحدة وأوروبا، من إجراء انقلاب نوعي وخطير في النظرة العامة إلى الثورة السورية، التي هي في الأساس معركة ضد نظام مستبد قاتل، من خلال الترويج أن ما يجري هو معركة ضد الإرهاب المتمثل بداعش والقاعدة وتفريعاتهما، من دون النظر إلى الأساس الذي أوجب ظهور مثل تلك التنظيمات، وهو الاستبداد الذي تدعمه

أكبر التظاهرات ضد جبهة النصرة قامت في إدلب، وأولى التجارب الديمقراطية المدنية المتمثلة بانتخاب حر للمجالس المحلية كانت في إدلب

بشكل من الأشكال روسيا والولايات المتحدة، والذي سيبقى بيئة خصبة لنشوء مثل هذه التنظيمات وتغذيتها. وعلى هذا الأساس، صار من "المبرر" لها مهاجمة كل المناطق الخارجة عن بيت الطاعة، وما جرى ويجري في إدلب اليوم يوضح ذلك، علماً أن أكبر التظاهرات ضد جبهة النصرة قامت في إدلب، وأولى التجارب الديمقراطية المدنية المتمثلة بانتخاب حر للمجالس المحلية كانت في إدلب.

والأمر الثاني المهم في الرؤية الروسية، هو ما أنجزته في اتفاقات سوتشي التي انبثقت عن لقاءات أستانا، والمتمثل بتأسيس لجنة دستورية وإجراء انتخابات رئاسية يشارك فيها الأسد، وهذه اللجنة محل اختلاف كبير، وقد أخذت من الوقت ما يكفي، حيث استرجع معسكر النظام كثيرا من المناطق، وما زال الاختلاف قائماً، ناهيك عن مهمتها التي من المتوقع أن تأخذ مثل هذه المدة أو أكثر، بحيث يتمكن معسكر النظام من استعادة ما تبقى، لتصل في النهاية إلى لجنة سورية على الطريقة الروسية، مهمتها إجراء بعض التعديلات على الدستور، وكأن مشكلة السوريين هي "الدستور"، لا النظام الأمني الخانق لكل أشكال الحياة، وهو الذي خرق كل دستور حتى الذي صنعه بيديه.

قد ينجح معسكر النظام في المعركة التي يُعدّ لها باجتياح بعض مناطق إدلب، وصولاً إلى ما بعد طريق حلب -اللاذقية، وإبقاء منطقة صغيرة كشريط حدودي، لإيواء تلك الكتلة الكبيرة من البشر المهجرين الذين لا يريد عودتهم ولا حكمهم كونهم بؤرة توتر وتمرّد ضد نظامه، وقد يتحقق ذلك سواء بشكل عسكري أو سياسي ضمن اتفاق جديد ينبثق من الوقائع الجديدة ومن اختلال ميزان القوى لصالح معسكر النظام وضامنيه القتلة، ولكن -بالتأكيد- لا يمكن أن يكون هذا "التقدّم" دليلاً على سيطرة الأسد على سوريا التي دمّرها واستباحها وأباحها من قبل؛ حيث تعاني مناطق سيطرته بالأساس المشكلات والأزمات التي يصعب عدّها، ويستحيل حلّها مع بقائه، وتتوفر كل الشروط لوقوع تصدعات جديدة، يمكن أن تحدث بأي وقت، مع وجود بنية الفساد والقمع. فالمناطق التي خضعت لاتفاقية المصالحات تعاني مظالم عدة، وأهمّها التجنيد والاعتقالات والحرمان من الخدمات، ناهيك عن بقية المناطق ومشكلاتها المختلفة نتيجة غياب الخدمات وهيمنة الميليشيات، وليس آخرها ما يحدث في اللاذقية من اقتتال بين ميليشياته، وما يقال عن حجز على ابن خاله رامي مخلوف.

دفعت سوريا والسوريون ثمناً باهظاً في معركة الكرامة والحرية، حيث أمست البلاد شبه مدمرة، وما تبقى منها مرتهن للقوى الأجنبية، وهناك مئات

ما صيحة المواطن السوري في المظاهرة الأخيرة في معبر باب الهوى: "نريد حقوق الحيوان"، إلا تعبير عن مدى اليأس الذي خيّم على السوريين من جراء الموقف المتخاذل للغرب

آلاف المعتقلين، وملايين المهجرين، فضلاً عن الصدوع والأحقاد المتولدة بين السكان، سواء المذهبية أو العرقية، التي ستظهر آثارها ذات يوم. وعلى ذلك؛ لن يتمكن لا الروس ولا الأسد من فرض الاستقرار بالقوة وحدها، طالما أن المظالم قائمة. كل هذا كان نتيجة للموقف الأميركي الذي أدار ظهره لقضية السوريين واكتفى بمعركته ضد الإرهاب، ونتيجة الموقف الأوروبي المهادن والرخو تجاه النظام وروسيا وإيران، الذي أوصل المواطن السوري إلى درجة الكفر بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ينادي بهما الغرب، وما صيحة المواطن السوري في المظاهرة الأخيرة في معبر باب الهوى: "نريد حقوق الحيوان"، إلا تعبير عن مدى اليأس الذي خيّم على السوريين من جراء الموقف المتخاذل للغرب، الذي لن يولد سوى مزيد من التطرف الذي لن يكونوا في منأى عنه.

تبقى قضية اللاجئين، سواء الموجودون في أوروبا أم في دول الجوار، وما يمكن أن ينشأ عن معركة إدلب، هما القنبلة الموقوتة التي قد تدفع بانفجارها إلى التفكير بحل معقول لقضية السوريين، يضمن لهم شروط العودة والحياة الكريمة، من خلال الخلاص من نظام الاستبداد، والعمل على معالجة آثاره، وإلا فإن المنطقة لن تعرف الاستقرار.