سوريا بين شعارين

2019.05.10 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان شعار: "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد" سابقاً على شعار: "قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد".

وكانا شعارين متقابلين متناقضين، ولشخصيتين متقابلتين متناقضتين، وأتباع متقابلين متناقضين.

أما أتباع القائد الأول فقومٌ مضبوعون مستلبون، تسوقهم الرهبة القاتلة، والرغبة الخسيسة. أجساد بلا أرواح! يرقصون ويدبكون ويهتفون: "إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد"، "بالروح بالدم نفديك يا حافظ"، و"حلّك يا ألله حلك... يبرك حافظ محلك"، و"حيّدوا نحن البعثية حيّدوا.... وحافظ أسد بعد الله منعبدوا". هكذا كنت أسمع هذا الشعار الأخير بأذني في ساحة سعد الله الجابري في حلب، وهنالك روايات أخرى محفوظة عندي بالسند المتصل أنّه قيل في ساحات أخرى: "وحافظ أسد قبل ألله منعبدوا".

ولد شعار (القائد الخالد) من رحم شعار (قائد المسيرة) الذي أطلقته قيادة البعث على قائدها منذ أيار 1971، ويحدثنا حنّا بطاطو في كتابه (فلاحو سوريا): "راحت قيادة البعث الجديدة تهلّل لقائدها بوصفه (قائد المسيرة) مطلقةً بذلك عبادة الأسد، وفي حين اعترفت بأنّ "التاريخ بدون شك ليس تاريخ أفراد، وإنما تاريخ شعوب" فإنّها أصرّت على أنّ "شعبنا نتيجة تطوره الخاص وظروفه، يؤكد على ضرورة وجود قائد... وإنّه بدأ يرى بالرفيق حافظ الأسد هذا القائد"، وتابعت القيادة، ربما بتأثير وهمٍ ما، لتقول: "التفاف الجماهير حول قائدها لا ينقص القيادة دورها، فالرفيق حافظ حزبيٌ ملتزم بقرارات القيادة متفاعل معها".

سُرّ الرفيق حافظ بهذا اللقب، فقد أصبح أخيراً قائداً ينتظم في سلك القادة: (ستالين، وموسوليني، وهتلر، وتيتو، وتشاوشيسكو، وعبد الناصر) ... إلخ، القادة الذين يقودون دولهم وشعوبهم وأحزابهم وفق إرادتهم، بل وفق إشارة أصبع من أصابعهم.

ولكنّه في لحظة ما لا يمكننا تحديدها انتبه (قائد المسيرة) إلى الخلل في هذا اللقب! فالمسيرة من السير، والسير من الحركة، والحركة في جوهرها تبدّل وتغيّر، والتغير قد يطاله، لذا كان لا بدّ من تغيير هذا اللقب، إلى آخر لا يلوح فيه معنى المسير ولا الحركة بأي شكل من الأشكال، فتربّص إلى أن حانت الساعة المناسبة، وأعلن شعار المرحلة، بل شعار جميع المراحل: (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد).

ويحدثنا حنّا بطاطو أيضاً عن ظروف ولادة هذا الشعار وفحواه فيقول: "وفي عام 1985، بعد أقل من سنة من (صراع الخلافة) الذي نشب نتيجة مرضه وعجزه المؤقت، سيمضي المؤتمر القطري الثامن إلى أبعد ليرفع شعار (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد)، وسيبذل المؤتمر أيضاً جهداً عظيماً ليؤكد أنّ (الولاء له ولاءٌ للحزب وللشعب ولقضيته)، وسيحذّر من أنّ (الإخلال بالولاء، تحت أي صورة كانت إنّما يشكل انحرافاً خطيراً يرفضه الحزب وترفضه الجماهير).

 

 

"وفي عام 1985، بعد أقل من سنة من (صراع الخلافة) الذي نشب نتيجة مرضه وعجزه المؤقت، سيمضي المؤتمر القطري الثامن إلى أبعد ليرفع شعار (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد)، وسيبذل المؤتمر أيضاً جهداً عظيماً ليؤكد أنّ (الولاء له ولاءٌ للحزب وللشعب ولقضيته)، وسيحذّر من أنّ (الإخلال بالولاء، تحت أي صورة كانت إنّما يشكل انحرافاً خطيراً يرفضه الحزب وترفضه الجماهير).

كانت مفردتا (القائد) و(الأبد) مفردتين مضمّختين بالديكتاتورية والشمولية والدغمائية، فاكتوت جميع البلدان التي وجدت فيها هاتان المفردتان إيّما اكتواء، وظلت رازحة تحت وطأة العسف والتخلف والتقهقر على الرغم من الجعجعة الدائمة بمصطلح (التقدم) الذي لم يكن يعني سوى التقدم نحو الهاوية بوصفها الغاية التي تنتظر هذه البلدان التي تعبد قائداً أبدياً خالداً مخلّداً.

وفي النسخة المعدّلة من هذا القائد وفي ساعة المواجهة فرّخ هذا الشعار جيشاً عقائدياً مسخاً، وكتائب بعث، وقوات دفاع وطني، ولواء قدس، وقوات زوبعة، وميليشيات عديدة بعناوين طائفية لا حصر لها انفقست كبيض السمك في المستنقع، وزخرت وغزرت، وطغت وطمّت، وانخرطت في حرب ضربت فيها أروع الأمثلة في عدم التفريق بين عمران وحيوان وإنسان وطفل وامرأة وشيخ ومقاتل وإرهابي، فقتلوا جهاراً غير خَتْلٍ، وعلانيةً غير سرٍّ، ومن رحم الشعار نفسه توالدت شعارات: "الله. سوريا. بشار وبس"، فقابلها السوريون المنتفضون بــ: "الله. سورية. حرية. وبس"، ثم توالت شعارات: "الأسد أو نحرق البلد"، و"بشار أو الدمار"، و"الجوع أو الركوع".

وفي 9/1/ 2013 خرج بشار الأسد على التلفاز يتساءل: "الثورات بحاجة إلى قادة. من يعرف قائد هذه الثورة"؟ فجاءه الجواب بعد أسبوعين في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، وسُمّيت تلك الجمعة بـجمعة (قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد).

كانت الحناجر تهدر مردِّدة هذا الشعار في المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية، وكانت الجموع تسير بكل ثقة وهي ترى انتصارها أمام عينيها، ولسان حالها يقول: لئن صلتم علينا بالأسد لندمغنّكم بمحمد. وهل لشعار (القائد الأسد)، أن ينافس شعار (القائد سيدنا محمد)؟ فما ناجز سيدنا محمد أحداً إلا وغلبه، وكانت العاقبة له.

بعد يوم واحد من إطلاق هذا الشعار دار نقاش بين السوريين المعارضين حول صحة هذا الشعار وصوابه، في الفيس بوك، وفي المنتديات، وكُتبتْ مقالات بعضها ينتقده على استحياء من خلال عرض النقاش الدائر حوله ما بين مؤيد ومعارض، وبعضها يشيد وينتشي به، ويبارك للرسول الكريم رجوع سوريا إليه.

لم يدرْ في خلد تلك الجموع الثائرة أنّها ترتكب جريمة حين تُزاحم وتجاذب (الأسد) بــ (سيدنا محمد)، وأنّها تسفّ غاية الإسفاف حين تنازعه به! ظنّوا أنّهم يقابلون بينهما على سبيل المتراجحة، لكنّها كانت في الحقيقة على سبيل المعادلة، وبئساً لها من معادلة حين يُقابل الأسد بمحمد! وياله من إجحاف وخسران حين ظنّوا أن مجرّد الزجّ بهذا الاسم الشريف سيجعلهم في معقل لا يُسامى ولا يُنال، وسيضمن دعم القوة الغيبية اللامرئية، وسيجمع حولهم عموم الشعب المتأجّج بالعاطفة الدينية، ولكن هيهات فشروط الأماني غير شروط جواز الأفعال، وإمكان الأمور.

لم يدرْ في خلد تلك الجموع الثائرة أنّها ترتكب جريمة حين تُزاحم وتجاذب (الأسد) بــ (سيدنا محمد)، وأنّها تسفّ غاية الإسفاف حين تنازعه به! ظنّوا أنّهم يقابلون بينهما على سبيل المتراجحة، لكنّها كانت في الحقيقة على سبيل المعادلة، وبئساً لها من معادلة حين يُقابل الأسد بمحمد!

حوّل هذا الشعار محمداً عليه الصلاة والسلام من رسول ونبي كريم إلى زعيم وقائد سياسي، في مواجهة زعيمٍ وقائد سياسي آخر، ولكن هذا الزعيم المقابل لم ينكر رسالة النبي ولا نبوّته، بل دعم نفسه بكبار مشايخ البلد على الإطلاق، وبدكاترة الشريعة الحائزين على أعلى المراتب الأكاديمية، ناهيك عن المفتين المتعددين، الذين يسير وراءهم الآلاف! وكلَّهم شهد بإيمان الزعيم القائد، وبغيرته على الدين والإسلام. وهذا يعني أنّ هذين الشعارين حين تقابلا لم يُعبّرا عن معركةٍ بين إيمان وكفر، بل عن مجرد منافسة سياسية.

كانت هذه المنافسة محكومة بالإخفاق لصالح القائد الأول ما دامت تقابِل بين قائد سياسي حاضر ومدعوم بكل القوى المادية والمعنوية، وبين قائد مستدعى من التاريخ والوجدان لا يمتلك أتباعه أدنى المقومات المادية، وهنا يكمن الفرق بين محمد النبي ومحمد القائد السياسي اليوم. فمحمد الرسول والنبي حاضرٌ وماثل في قلوب المؤمنين وضمائرهم، وقوته قوة معنوية روحية لا تنقضي، وهي القوة التي لا يني قائد الشعار الأول وأتباعه من التذرّع والتدرعّ بها، بل واعتماد وزارة خاصة للاستفادة منها وتفعيلها، لتصبّ في مصلحته ومنفعته.

وفي خضمّ هذا التنازع أصرّ أتباع الشعار الثاني على استثمار اسم سيدنا محمد في المعركة، وجعله قائداً سياسياً، ولكن بلا قوة مادية سوى ما يتلقّونه من تمويل أجنبي ليسوا على بيّنة من أهدافه وغاياته، وليتحوّلوا في نهاية المطاف إلى أتباع لمحمد في الظاهر، وعبيد لأرباب التمويل في الباطن.

وكما تناسل من الشعار الأول تنظيماته المسلحة المرعبة، فقد تناسل من الشعار الثاني تنظيماته المرعبة أيضاً، ابتداءً من تنظيم الدولة الإسلامية ومروراً بجبهة النصرة وجيش الإسلام، وانتهاءً بالتنظيمات الأخرى التي استثمرت الشعار نفسه، وانصاعت للمموِّلين أعينهم، وظهر في المناطق المحررة من رحم هذا الشعار شعارات وليدة لم يرها السوريون من قبل اجترحتها جبهة النصرة وزرعتها في أماكن سيطرتها: ففي مخالفة للأهداف التي انطلق السوريون أساساً من أجلها قرأنا شعارات: "الديمقراطية شرك"، و"الديمقراطية طريق التخلف"، و"الديمقراطية طاغوت العصر"، وفي تحجّرٍ للواسع وإعنات للناس قرأنا شعار: "الدخان والأركيلة حرام"، وفي معاندة لمقاصد الشريعة القطعية، وافتئات عليها، وتحطيم لأولوياتها قرأنا شعار:"حجابك أختي أغلى من دمي".

 

 

 

لقد حوّل شعار (قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد) الرمز الديني إلى قائد، وشتّان ما بين الرمز والقائد، فالرمز وجود قائم على المعنى، والرمز يمكن أن يُستدعى من العصر الغابر أو الحاضر، أما القائد فلا يقوم إلا على الحضور والفعل والمباشرة

لقد حوّل شعار (قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد) الرمز الديني إلى قائد، وشتّان ما بين الرمز والقائد، فالرمز وجود قائم على المعنى، والرمز يمكن أن يُستدعى من العصر الغابر أو الحاضر، أما القائد فلا يقوم إلا على الحضور والفعل والمباشرة، وقد قال ميكيافيلّي إنّ من أهم صفات الأمير/ القائد الحضور! أن يكون حاضراً حضوراً مادياً، فيباشر قيادته بنفسه، ويحضر ولادة عنزته.

أما في سوريا، فكان من المستحيل أن تنتصر ثورة يتحوّل فيها الرمز الديني الجامع الواسع إلى قائد سياسي فئوي جهوي، ثم يقتتل أتباعه على أحقية النيابة عنه، والنطق باسمه، فيذبحون بعضهم بعضاً ذبح النعاج، ويفْرون بعضهم بعضاً فري الأديم.