سوريا بين خطابين: الشعبوي والديمقراطي

2018.10.31 | 23:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

هيمن على المنطقة العربية الفكرُ القومي بصيغته التحررية، وخاصة بعد ثورة 23 تموز 1952 في مصر بقيادة عبد الناصر (ثورة ليس لها المعنى الإيجابي بالضرورة، وإنما لأنها قلبت بالكامل ما كان سائداً في المرحلة السابقة)، ضد الحياة السياسية التي كانت سائدة عهد الملك فاروق، إذ ألغت الأحزاب والحياة السياسية، واستبدلت العلاقات مع الغرب الاستعماري، ممثلاً بفرنسا وبريطانيا، بعلاقات مع المعسكر الاشتراكي/ الاستبدادي.

كان لثورة مصر هذه ارتدادات عميقة على مستوى الشارع العربي، الذي صار ينظر إلى عبد الناصر، ولا سيما بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، كبطل قومي وشعبي لا مُنازع له، تتنادى الجماهير لصيحاته من المحيط إلى الخليج. وأولى هذه الارتدادات وأهمها ما حدث في سورية، ففي الفترة التي توصف في الحياة السياسية السورية بأنها الفترة الديمقراطية (1954-1958)، تمكّنت الأحزاب العقائدية وصاحبة النزعة الانقلابية ممثلةً بالعسكر من فرض الوحدة على السوريين، رغم حالة الخلاف الحزبي حول الوحدة، مستغلين الدعم الشعبي الكبير لعبد الناصر، الذي عمّم نموذج الحكم في مصر على سوريا، من خلال الجمهورية العربية المتحدة، وألغى الحياة السياسية، وفرض نظام المخابرات على البلاد، مما خلق حالة من الشرخ في سوريا تجاه الوحدة ككل، ومهّد بالتالي لحالة الانفصال.

القضية الأخرى التي كانت لا تغيب عن وجدان الناس عموماً، وعن برامج الأحزاب كلها، وكانت عاملاً مقسماً في بعضها، هي قضية فلسطين، والسبل اللازمة لتحريرها، من حرب التحرير الشعبية، إلى حرب الجيوش النظامية، وقد حظيت بدعم كبير من مختلف حركات التحرر في العالم، ناهيك عن دول المعسكر الشرقي.

جاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 بعد تلك التحولات حيث وجدت التربة صالحة فالاستبداد بلغ مداه، وخنق الحياة السياسية صار معمماً

ظهرت علامات فشل هذه الدولة، في أعقاب هزيمة 1967 التي عرّت تماماً خطاب هذه الأنظمة في تحرير فلسطين، إذ لم تكتف تلك الأنظمة بأنها لم تحرر شبراً واحداً من فلسطين، بل خسرت أراضي من ثلاث دول في فترة خاطفة، ومن ناحية أخرى أظهرت فشلها في تطبيق نموذجها من الاشتراكية، فلا التأميم ولا الإصلاح الزراعي دفعا بعجلة التقدم في البلاد، وإنما جعلاها من الدول المستوردة للمواد الغذائية، ناهيك عن المواد المصنعة. هذا الفشل كان بوابة لدخول تلك الدول صراحة في نمط الحكم الاستبدادي الفاقع.

بالإجمال، كانت الحقبة المذكورة حقبة حركات التحرر من الاستعمار، وكان خطابها ومشروعها، في بناء الدولة/ الأمة، خطاباً إيديولوجيًا شعبوياً، يحمل في طياته بذور فشله، إن لم نقل تدمير الأوطان والبلاد برمتها، من خلال اعتماده نموذج الدولة الأمنية التي خنقت الحياة السياسية، وأسست لنماذج من التطرف والانفجارات غير المحسوبة.

كانت فترة الثمانينيات فترة فاصلة، لكنها شكلّت بدايةً لمرحلة تحولاتٍ كبرى في المنطقة والعالم، فبعد سقوط المعسكر الاشتراكي/ الاستبدادي، الذي اقترنت باسمه -طوعاً أو قسراً- فكرة الاشتراكية والتحرر، وتسيّد الولايات المتحدة في عهد ريغان وجورج بوش الأب على العالم، في صيغة نظام القطب الواحد لإدارة العالم؛ كما ظهرت تحولات سطحية وأخرى عميقة باتجاه الليبرالية، وأهمها ما عبّر عنه المؤرخ فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) كتعبيرٍ عن سيادة النظم الليبرالية كأفضل نظام في العالم، ولم تكن بلداننا بعيدة عن هذه التحولات، حيث صار الجميع ينشد الديمقراطية، ويعدّها حلاً سحرياً لكافة المشاكل القائمة، بالرغم من عدائه المزمن لها، وإخلاصه الشديد لـ "الديمقراطية الشعبية".

جاءت ثورات الربيع العربي عام 2010، بعد تلك التحولات، حيث وجدت التربة صالحة، فالاستبداد بلغ مداه، وخنق الحياة السياسية صار معمماً، بل صار الاشتراك في عمل عام، أياً كان، جريمة تعاقب عليها تلك الأنظمة بأبشع العقوبات، من تعذيب وسجن وقتل، ومن ناحية أخرى، ساد خطاب الديمقراطية والتنمية، رغم غياب حوامله الحقيقية التي خنقتها عملية الاستبداد المزمنة، وطرق الثراء اللامشروع التي فتحتها تلك الأنظمة المنفتحة نحو الليبرالية الاقتصادية، ولكن المرتبطة بالنظام، مما خلق فئات زبائنية يرتبط ثراؤها بمدى ولائها للنظام.

يغدو الخطاب القومي التحرري الخطاب الذي يركّز على بناء الدولة/ الأمة القائم على أسسٍ ليبرالية، هو الخطاب الأمثل الذي يحمل إمكانية تحرر البلاد

الأمر الأكثر أهمية أن الناس، عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، كانوا مستعدين لتقديم الثمن من أجل الحصول على الحرية، والعيش بكرامة طالما حلموا بها من زمن، لكن نتيجة للتعقيدات الكبرى التي أحاطت بتلك الثورات، وخاصة الثورة السورية -من مواقف "الجارة" المدللة إلى تناقض المصالح الإقليمية والدولية، إلى العنف المفرط الذي واجه به النظام أولاً، ومن بعده إيران وميليشياتها، ومن ثم الروس بسلاحهم الفتاك وغير الذكي، ومن جهة أخرى الاستقطاب الطائفي الكبير الذي خلقه النظام عبر عقود من سياساته التمييزية، ودخول فصائل جهادية إسلامية متطرفة مثل داعش والنصرة، التي لا تعترف بمفهوم الوطن أصلاً- دخلت البلاد في حالة من التفتت والعجز، في انتظار المجهول.

ومن ناحية أخرى، خلقت تلك التعقيدات، والزمن الطويل من القتل والتهجير وتصارع المصالح، حالةً من اليأس والتفتيت الجديدين، فالشمال السوري صار منطقة سنية تقريباً تحت النفوذ التركي، والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام مناطق للميليشيات والنفوذ الروسي، وهي تضم مجمل الأقليات في سوريا، أما المناطق الشمالية الشرقية، فتخضع لسلطات قوات قسد المتحالفة مع الولايات المتحدة، مما قسّم البلاد إلى مقاطعات ثلاث، والخوف كل الخوف من أن يكون المآل نماذجَ أو نوياتٍ لدويلات جديدة، وسابقة يوغسلافيا أمامنا، رغم خطاب الدول المتصارعة حول وحدة أراضي سوريا، الذي لا يعدو أن يكون خطابًا أجوف، في ظل الوقائع التي ترتسم عنوة على الأرض.

ما يهمنا نحن، السوريين، أنّ كلا الخطابين والمشروعين: مشروع الخمسينيات والستينيات، بخطابه القومي التحرري، وعبادة الناس للزعيم واستعدادهم للتضحية من أجله (وما استقبال عبد الناصر في مؤتمر الخرطوم عقب هزيمة حزيران 1967 إلا خير مثال)، وخطاب الثورات العربية عام 2010، بتركيزه على قضايا الحرية والكرامة، لم يُنجزا شيئاً من مهامهما، بل أوصلا البلاد إلى نتائج عكس ما كانت تنشده، فالأول ولّد الاستبداد، والثاني فتت البلاد (والعوامل كثيرة، وأولها نظم الاستبداد) الأول ركّز على خطاب عفوي وميتافيزيقي في بناء الدولة، والثاني أهمل قضية الدولة، وركز على حقوق "المكونات" التي لم تفضِ إلا للتفتيت أكثر، والعراق بعد الاحتلال الأميركي خير مثال.

يغدو الخطاب القومي التحرري، الخطاب الذي يركّز على بناء الدولة/ الأمة القائم على أسسٍ ليبرالية، هو الخطاب الأمثل الذي يحمل إمكانية تحرر البلاد، ونقلها نحو الحرية والكرامة. فالدولة هي التي تتحقق من خلالها وفي إطارها المواطنة، وليس من خلال تكرار خطاب المواطنة صباح مساء، وهي ذاتها التي تضمن حقوق الجميع من خلال مشاركتهم في عملية بناء الدولة، وفي تقرير شكل نظام الحكم، وواهم من يعتقد أن البديل للدولة الوطنية هي دولة المواطنة، لأن البديل هو دولة المحاصصات الطائفية.