سهام لبنان الأقلوية.. من العنصرية إلى تفتيت الدول العربية

2019.09.05 | 09:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

فجّر رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون سجالاً جديدة مع تركيا في مناسبة الدخول في مئوية ولادة لبنان الكبير. لبنان هذا الذي لم يرس أبناؤه بعد على وجهته وهويته، يضيعون بين التعريب والتغريب، فيهربون إلى منطق الفينقة، وكأن فينيقيا في بعض تجلياتهم الانعزالية، محصورة على الساحل اللبناني، ولم تكن جزءاً من سوريا. الصراع على الهوية اللبنانية، اتخذ طبائع مختلفة، سياسية، طائفية، مذهبية، عرقية، وقومية. كل هذه الصراعات حطّت رحالها في الفترة الأخيرة، على عتبة ابتعاد لبنان عن محيطه العربي ضمناً، والتحاقه بمشاريع تفتيتية هدفها ضرب المنطقة وجغرافيتها ونسيجها.

وإذا ما تم النظر إلى التحولات التي تجري على الصعيد العالمي، فيبدو جلياً وواضحاً اتخاذ الأمور منحى تصغير الكيانات أو تحجيمها، كالمحاولات الجمّة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، أو بالحد الأدنى إضعافه من خلال تنامي القوى اليمينية المتطرفة فيه، وما يقابل هذه المحاولات، من عمليات تصغير للكيانات في منطقة الشرق الأوسط. عملية تصغير الكيانات هنا تحصل بالفرز العسكري والسياسي والديمغرافي، على أساس مذهبي وطائفي، بينما أيضاً تضمحل حالات الاستقلال السياسية لدى هذه الكيانات لصالح ذوبانها ضمن مشاريع أكبر، كحالة لبنان مثلاً الذي أصبح بشكل مباشر خاضعاً للسياسية الإيرانية ومستلحقاً بها، سوريا التي تفتت جزء منها مع تركيا، وآخر مع روسيا، وثالث مع إيران، ورابع مع أميركا.

وعليه يمكن بالنظر إلى عملية تصغير الكيانات استنباط مصطلح سياسي جديد، هو تعدد الكيانات

منطق تصغير الكيانات، يعيد نفسه بعد مئة سنة إلى إنجاز تفتيت السلطنة العثمانية وتوزيع تركتها على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى

الصغيرة المنضوية في بوتقة سياسية واحدة. وعلى الرغم من كل الخلافات التي تبدو مشهودة بين القوى القوية والمؤثرة، إلا أن هذه القوى تلتقي على أهداف واحدة، وتتقاطع المصالح فيما بينها، فيما تبقى الخلافات محصورة بتحسين كل طرف لشروطه ومناطق نفوذه أو مكاسبه.

منطق تصغير الكيانات، يعيد نفسه بعد مئة سنة إلى إنجاز تفتيت السلطنة العثمانية وتوزيع تركتها على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. والتي من نتائجها، أعلنت دولة لبنان الكبير، موضوع النقاش المستجد الذي فتحه رئيس الجمهورية اللبناني، وبالعودة تاريخياً إلى تلك اللحظة، فكان واضحاً أن جزءاً من اللبنانيين كان يطمح بالانضمام إلى المملكة العربية المتحدة، بينما الجزء الآخر كان يرغب بالانضمام إلى فرنسا. هذا الخلاف انفجر في محطات متعددة حروباً أهلية ونزاعات دموية. تجددت صراعاً على الهوية بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية، واستشعار فئات كثيرة من اللبنانيين بتنامي نزعة تحالف الأقليات على حساب القوى السنية.

وما يعيشه اللبنانيون في هذه المرحلة، هو نتاج لما شهدته سوريا طوال السنوات الماضية، والتي تنعكس لبنانياً بخطاب عنصري وتفوقي تجاه اللاجئين السوريين والفلسطينيين، في تأكيد جديد بأن بعضاً من اللبنانيين لا يحبون العرب وينكرون محيطهم. هذا الاختلاف المستمر على تفسير الهوية اللبنانية، هو نفسه ينطبق على مقاربة عون حول السلطنة العثمانية، والتي فتحت سجالاً مع تركيا التي وصفت كلام رئيس الجمهورية بالمتهور والمجافي للحقيقة.

ومشكلة اللبنانيين أنهم لا يقرؤون التاريخ إلاّ من منظورهم أو كما يقدّم لهم وعندما يناسب توجهاتهم. إذ إن عون حمّل العثمانيين مسؤولية ما تعرض له لبنان في الحرب العالمية الأولى، والمجاعة، بينما الحرب والمجاعة كانتا على كل دول المنطقة. مجافاة الحقيقة هنا، هو أن السلطنة العثمانية كانت قد انهارت فعلياً في العام 1909، أي بإنزال السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش، لتتقدم عندها جمعيات تركية قومية ومتطرفة المشهد، وهذه القوى نفسها التي استخدمت من الغرب بهدف ضرب السلطنة العثمانية، التي كانت كل محاولات ضربها تتم من داخل ولاياتها وجسمها، تماماً كما هو حاصل اليوم، في لبنان، سوريا، العراق، وكل المنطقة.

قبل الحرب العالمية الأولى، وقبيل إنزال عبد الحميد عن العرش، عرض عليه من الدول الكبرى، أن يطبّع معهم وينفذ ما يريدونه، ويسلّمهم فلسطين كأرض موعودة لليهود، مقابل بقائه على عرشه، لكنه رفض، فنصبت حوله الكمائن، بادعاء تقديم الدعم للعرب بالاستقلال وإقامة مملكة متحدة، وبوعد الأكراد ببناء دولتهم، وغيرهم من القوميات، فظهرت بجلاء في ذلك الوقت فكرة تصغير الكيانات، على قاعدة إقامة تحالف للأقليات يقضي على السلطنة، في مقابل تعزيز مفهوم القومية التركية بالداخل، التي مثلتها تركيا الفتاة والاتحاد والترقي.

المنطق نفسه الذي استخدم في ضرب السلطنة العثمانية، يتكرر اليوم، من خلال تقديم الوعود للأنظمة العربية بالحفاظ عليها، مقابل تسليم فلسطين مجدداً وفق صفقة القرن، على أن يتم تطويع القوى الأخرى، ذات التأثير الضعيف، كلبنان مثلاً، الذي أصبح بكليته منسجماً مع مبدأ تحالف الأقليات. بينما العراق شهد تقسيمه العملي غير العلني، وسوريا كذلك، فيما القوى العربية الأخرى تبحث عن الحفاظ على أنظمتها مقابل التسليم بكل شيء.

كل هذا السجال، لا ينفصل عن العنف الذي مارسه طرف لبناني بالشعب السوري، قتلاً وتشريداً وتهجيرا. عنف لم

صهر عون جبران باسيل، يعتبر أن لا خلاف إيديولوجي لديه مع إسرائيل ومن حقها أن تعيش بسلام

يكن من مثيل له في كل أصقاع العالم وعلى مرأى كل الدول، وسط تأييد واسع من عون والمحسوبين عليه، وبالعودة إلى ثقافتنا التي نشأنا عليها، بأن غاية إسرائيل لتبرير وجودها وتأبيده، كانت تتركز على ضرورة تقسيم المنطقة، فجاء من نجح بتكريس هذا التقسيم بدلاً منها، ألا وهو الطرف الإيراني، الذي فعل ما فعله في العراق، وسوريا. بينما الحليف الاستراتيجي لحزب الله في لبنان، وهو صهر عون جبران باسيل، يعتبر أن لا خلاف إيديولوجي لديه مع إسرائيل ومن حقها أن تعيش بسلام، وكأنه على الأكثرية في هذه المنطقة فقط ألا تعيش بسلام، وتبقى إما خاضعة لما يُملى عليها، أو تحت سيف مسلط على رقبتها وهو تهمة الإرهاب.

تجتمع أميركا وروسيا على هذه المعادلة، وهذا ما يدفع عون إلى استعادة توجيه الاتهامات للسلطنة العثمانية، على قاعدة مبدأ حماية الأقليات، وفق مبدأ التحالف المشرقي الذي تحدث عنه الرئيس اللبناني سابقاً، وشكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حمايته للأقليات في الشرق. وما تجتمع عليه موسكو وواشنطن، لن يكون بعيداً عمّا تريده طهران في هذه المنطقة، خاصة أن موسكو وأوروبا تلعبان دور لاعب الإيقاع بين الإيرانيين من جهة والأميركيين والإسرائيليين من جهة أخرى، وهذا ما يُترجم أيضاً بالضربة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، فردّ عليها بشكل مدروس، سيكون مناسبة جديدة لتثبيت قواعد الاشتباك وفتح الطريق أمام المفاوضات الإيرانية الأميركية.