سـيبيريا السـوريين

2018.09.08 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ثمّة حادثة تاريخية شهيرة، راسخة في ذاكرة السوريين عبر الأجيال، تُمثل أعلى درجات التشفي والحقد عند الغزاة.

بعد معركة ميسلون التي استشهد فيها القائد الوطني و وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة، دخلت قوات الجيش الفرنسي إلى العاصمة السورية دمشق، بقيادة الجنرال هنري غورو، الذي سرعان ما ذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي (محرر القدس من الغزاة الصليبين) وعندما وصله ركل القبر بقدمه، وصرخ متشفياً بحقد: ها قد عدنا يا صلاح الدين الأيوبي، لقد انتهت الحملات الصليبية، ومثل هذا الفعل ليس بغريب على الغزاة.

كان في قديم الزمان منفى في القارة الروسية أنشأه القياصرة الروس، يرمون فيه المعارضين لحكمهم وصانعي الشغب، هذا المنفى اسمه سيبيريا، وهي منطقة جغرافية واسعة تقع في الشمال الشرقي من روسيا، غير مأهولة، شديدة البرودة، ولا يتوقف فيها الثلج عن الهطول طوال السنة، و تكاد تخلو من مظاهر الحياة البشرية لقسوة مناخها.

كانت سيبيريا منفى بلا حيطان أو قضبان، آنذاك كان القيصر يرسل المنفيين إليها عبر القطارات الحكومية، ليرمونهم فيها، و لا يمكن لهؤلاء المنفيين أن يعودوا إلا بالقطار الحكومي ذاته الذي جلبهم إلى هنا، أو عليهم أن يمشوا لأشهر وأشهر تحت الثلوج حتى يصلوا إلى موسكو، وهذا مستحيل.

كانت سيبيريا منفى بلا حيطان أو قضبان آنذاك كان القيصر يرسل المنفيين إليها عبر القطارات الحكومية ليرمونهم فيها

خلدت هذا المنفى السيبيري القيصري القاسي في روسيا، عشرات الروايات والأفلام السينمائية، وإبداعات في فنون أخرى، وذلك بنقل حكايات المنفيين، وعذاباتهم وحياتهم الشاقة بين الثلوج، في منطقة لا حياة فيها إلا للمنفيين قسراً، من قبل حكومة القيصر.

كان هذا في قديم الزمان، ولكن النظام السوري سرعان ما التقط فكرة هذا المنفى السيبيري الداخلي، من الزمن الغابر للقياصرة، ليطبقها في سوريا، متخذاً من مدينة إدلب في الزاوية الشمالية الغربية من البلاد، منفى لمعارضيه من بقية المدن السورية، من مدنيين ومسلحين مع عائلاتهم وأقاربهم، ويحول هذه المدينة مع مرور سنوات الحرب إلى ما يشبه سيبيريا جديدة، سيبيريا خاصة هذه المرة بالسوريين المنتفضين ضد الديكتاتورية.

وفعلاً، استطاع القيصر السوري (بشار الأسد) في هذه السنوات الدموية، حشر ما يقارب الـ أربعة ملايين إنسان (جزء جيد منهم من المنفيين، من مناطق أخرى من سوريا) في منطقة صغيرة، هي إدلب وريفها، ويقارب عددهم عدد سكان بعض دول العالم، مثل لبنان (باستثناء عدد اللاجئين فيه) أو أرمينيا، أو جورجيا، أو البوسنة والهرسك.

 ليضاف إلى المنجزات السوداء للقيصر السوري بشار الأسد، إنجاز إجرامي آخر، وهو المنفى الإدلبي، الذي على عكس المنفى السيبيري، حيث لا رواية أو فيلم سينمائي، يحكي للعالم عن عذابات السكان والمنفيين معاً هنا، كما حدث قديماً لزملائهم في المنفى السيبيري، على الأقل حتى الآن.

أقنع النظام السوري مؤيديه بفكرته المشوهة، وهي أنه يكنس وينظف غرف البيت السوري من النفايات والأوساخ، غرفة غرفة، وهناك غرفة صغيرة في آخر البيت، لا لزوم لها، على الأقل حالياً، مع أنه من هذه (الغرفة) المدينة، خرجت لزوميات أبي العلاء المعري).

وهذه الغرفة هي إدلب، وفيها سوف يجمع نفايات الغرف الأخرى خلال سنوات الحرب، بعمليات كنس وتنظيف دموية، ارتكبها في كلّ المدن السورية وأريافها.

وعند الانتهاء من عمليات الكنس والتنظيف، سوف يتفرغ للغرفة الصغيرة في آخر البيت، ليعيد فرز هذه النفايات و تدويرها و طحنها و دفنها، بعد أن جمعها في محافظة الزيتون إدلب، التي صارت بمثابة عاصمة للمقهورين السوريين، وصارت أيضاً: المنفى السيبيري السوري.

استطاع القيصر السوري (بشار الأسد) في هذه السنوات الدموية حشر ما يقارب الـ أربعة ملايين إنسان (جزء جيد منهم من المنفيين، من مناطق أخرى من سوريا) في منطقة صغيرة هي إدلب

ما سبق نفذه النظام السوري حرفياً ، وما سبق قاله حرفياً الإعلامي النازي سالم زهران، في لقاء معه على شاشة الفضائية الإخبارية السورية، حول إعادة تدوير النفايات البشرية في إدلب، وطحنها ودفنها على يد النظام السوري، مستخدماً هذه الكلمات التي تقشعر لها الأبدان، والتي لا يمكن أن نعثر على ما يشبهها، إلا في أسوأ الخطابات النازية العنصرية لـ هتلر. وهذا ما انتشر في الأيام الأخيرة عبر فيديو للإعلامي سالم زهران على وسائل السوشال ميديا.

إذا كان إعلامي مؤيد للنظام يتحدث بهذا الشكل على شاشة التلفاز، فكيف يتحدث عنصر أمن لدى النظام ذاته، في قبو معتم لتعذيب المعارضين؟...

استقبل الأدالبة خلال سنوات الحرب في مدينتهم وريفها، عشرات الآلاف من النازحين والمهجرين والمنفيين، من بقية المدن السورية وأريافها، وتقاسموا معهم ما توفر لهم من متطلبات الحياة على قلتها. ليعيشوا معاً حياة قاسية تحت نيران القصف الروسي والأسدي من السماء، وقبضة متشددة على الأرض للفصائل المتطرفة مثل جبهة النصرة، والتي تقاسمت مع النظام التنكيل بالبشر هنا، والتضييق عليهم وعلى حيواتهم، من خلال عصاباتها الملثمة، وأجهزتها الأمنية، مثل (جمعية سواعد الخير) الذراع الأمني الداخلي لجبهة النصرة.

في الوقت ذاته الذي يحشد فيه النظام قواته على أطراف إدلب، لاجتياح هذا المنفى وإعادة طحن نفاياته البشرية، خرج لنا السيد ديمستورا المبعوث الأممي الخاص بسوريا، بتصريح غريب، حيث أعلن استعداده شخصياً الذهاب إلى إدلب، ليساهم في تأمين خروج المدنيين منها، إن فعلها، أعتقد أنه سوف يساهم في حمام الدم لا أكثر ولا أقل.

إذا كان إعلامي مؤيد للنظام يتحدث بهذا الشكل على شاشة التلفاز فكيف يتحدث عنصر أمن لدى النظام ذاته في قبو معتم لتعذيب المعارضين؟

يُخيل لي أن السيد ديمستورا _ بتصريحه السابق _ عضوٌ في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي، وبمجرد انتهاء النظام من حمام الدم في المنفى الإدلبي، قد يكرمه بمنحه وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى!!..

على العالم أن يسارع بجدية، وبمسؤولية أخلاقية لإنقاذ إدلب من مطرقة النظام وسندان جبهة النصرة. منعاً لما قد يكون أكبر حمام دم في سنوات الحرب السورية، وآخرها.

يُخيل لي أيضاً، إن استطاعت قوات النظام دخول إدلب، وخلال المجازر، سوف يذهب العقيد سهيل الحسن (الملقب بالنمر) إلى معرة النعمان، وتحديداً، إلى قبر أبي العلاء المعري، الذي كان أحفاده في معرة النعمان من أوائل المنتفضين ضد النظام في الثورة السورية.

وعندما يصل القبر سوف يركله متشفياً وهو يصرخ بحقد:

ــــ ها قد عدنا يا أبا العلاء المعري، لقد انتهت الحملات الأسدية.....

ومثل هذا الفعل ليس بغريب على الطغاة.