"سرطان" الشعب السوري

2018.09.09 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كتبتُ مراراً عن "الانحطاط اللبناني" إلى حد الضجر واليأس. لكن للأسف، في كل مرة يخرج علينا موضوع يفرض نفسه لا مهرب منه. فهذا الانحطاط  يواصل انحداره نحو حضيض أعمق وأشد ظلاماً. كل مرة نقول "هذا هو القاع"، يتبين أن ثمة قعراً جديداً له يسقط فيه الوعي اللبناني. وعندما يتعلق الأمر بالنظرة تجاه السوريين، سنرى العنصرية بأشنع صورها. وعندما يتعلق الأمر بموالاة لبنانية لنظام بشار الأسد سنرى الحقارة بأرخص تجلياتها وأقبحها. وعلى كل حال، ليس صدفة أن تجتمع في اللبناني الواحد العنصرية ضد السوريين مع الموالاة لعصابة الأسد. فهذه تغذي تلك وتعضدها في معظم الأحيان.

"الالتهابات المتزايدة بفعل تكاثر السوريين في لبنان تتسبب مباشرة بمرض السرطان". هذا ما قاله "الطبيب المختص" اللبناني فادي نصر، تعليلاً لتقرير رسمي حول تزايد نسبة الإصابة بالسرطان في لبنان. وفي كلامه هذا، جمع نصر بين "النفايات" و"التلوث" و"اللاجئين السوريين" في كونهم معاً وعلى مرتبة واحدة كسبب مباشر للأمراض وعللها التي تصيب اللبنانيين. وكلام بهذه الخسة والدناءة يتفوق على أكثر الشعارات العنصرية ابتذالاً، والتي كانت متداولة في تاريخ التمييز العرقي والديني، كالجمع بين الكلاب واليهود والسود.

كلام الطبيب اللبناني قد يذكرنا بفترة مظلمة في القرون الوسطى، حين سرى اعتقاد أوروبي أن اليهود يسببون الطاعون، أو أن النساء (الساحرات) هم سبب الأوبئة، كما يذكرنا بمعتقدات شعبية عندنا عن "نجاسة" غير المسلمين. لكن ما قد يكون جهلاً يشفع قليلاً لأبناء هذه المعتقدات وتلك الأزمنة، لا يتناسب مع "علم" هذا الطبيب وشهادته الأكاديمية، ولا يشفع فيه سبب وجيه. 

كلام الطبيب اللبناني قد يذكرنا بفترة مظلمة في القرون الوسطى حين سرى اعتقاد أوروبي أن اليهود يسببون الطاعون

الفضيحة ليست فقط في تصريح الطبيب، بل بعدم تردد موقع تلفزيون "أم. تي. في" بتبنيه ونشره. إذ جاء عنوان التقرير الصحافي: "السرطان يجتاح لبنان.. وسببان يساهمان بانتشاره" (السبب الأول هو النفايات والتلوث والسبب الثاني هو البكتيريا المتكاثرة عند اللاجئين السوريين) ما يوحي أن إدارة تحرير الموقع تتبنى بلا تحفظ رأي فادي نصر. وإذا كان كلام الدكتور العنصري على هذه الدرجة من السوء، فإن فعلة الموقع الإعلامي هي الأسوأ، خصوصاً وأن سجل الموقع المذكور حافل بالسقطات الأخلاقية المترعة بالعنصرية تجاه السوريين والفلسطينيين.

ولأن ترهات الطبيب المذكور تندرج في سياق عريض ومتواصل من الأدبيات العنصرية، فقد سبقها كلام إعلامي أيضاً، ومن قبل "مختصين" أو أصحاب مواقع رسمية، يحيل أزمة النفايات وتفاقم التلوث إلى كثرة اللاجئين السوريين، كذلك أزمة انقطاع الكهرباء وشح مياه الشرب وارتفاع معدل البطالة أو تزايد معدل الجرائم والسرقات.. بل وحوادث السير. أي باختصار، السوريون وفق الإعلام اللبناني: هم السرطان نفسه، هم البكتيريا، هم التلوث، هم النفايات.

لا يمكن فهم استسهال الكثير من اللبنانيين لممارسة العنصرية تجاه السوريين، من دون العودة إلى واقع حال الشعب السوري. لقد أعلن بشار الأسد نفسه، أن الذين خرجوا بمئات الألوف إلى شوارع المدن السورية وساحاتها واجتمعوا في تظاهرات يومية منذ ربيع 2011 هم "جراثيم". واستخدام هذه الكلمة كان "تطوراً" في لغة النظام التي كانت تصف فيها المواطن بـ"الحيوان"، لتنزله إلى مرتبة ميكروبية.. ما ينزع نهائياً أي صفة بشرية عن هؤلاء السوريين، ويقضي بالتالي على أي وازع أخلاقي في سياسات "التطهير" و"التعقيم" و"الإبادة". في زمن الثورة، حدث التحول في العلاقة بين النظام والشعب السوري، إذ انتقل من طور "تدجين الحيوان" إلى طور "التطهير من الجراثيم".

بهذا المعنى، الاقتراح الوحيد الذي يقدمه النظام اليوم للسوريين في استسلامهم له، عبر ما يسمى اتفاقات "المصالحة"، هو رفعهم إلى سوية التدجين مرة أخرى، بدلاً من سحق والتطهير والقتل والموت.

لقد أعلن بشار الأسد نفسه أن الذين خرجوا بمئات الألوف إلى شوارع المدن السورية وساحاتها واجتمعوا في تظاهرات يومية منذ ربيع 2011 هم "جراثيم"

هنا في لبنان، تتكشف أكثر العداوة بين النظام الأسدي وعموم السوريين. فطوال سنوات من الممارسات العنصرية اللبنانية تجاه السوريين، وهي بمعظمها جماعية وعمومية وليست فقط أحداثاً فردية، لم تحرك في "الدولة السورية" أي اهتمام أو انزعاج أو إبداء رد فعل سياسي أو دبلوماسي أو حتى إنساني. فهي لا تتصرف على أساس أن هؤلاء الناس "مواطنوها"، طالما أنها بقوتها العسكرية وبضراوة عنفها طردتهم أو أجبرتهم على الهروب من سوريا. فالدولة التي "ترشّ" مواطنيها بالمبيدات الكيماوية وتلقي عليهم البراميل المتفجرة إنما تنظر إليهم كحشرات وبكتيريا.

على هذا النحو، تكمل العنصرية اللبنانية عنصرية النظام الأسدي في سياسته التطهيرية، وفي تحويل الكائن السوري إلى "سرطان" يتوجب استئصاله. فقد أدرك النظام أن شعار "محاربة الإرهاب" وتدمير "بيئاته الحاضنة" لا يتيح له التمادي في الإبادة الجماعية التي يرغبها، لكن تكريس السوريين كجراثيم أو ككائنات سرطانية في المخيلة العامة، يسهل عليه استئصالهم وتطهيرهم، بالحرب وبوسائل العنف الأخرى التي تمارسها أجهزته المخابراتية والإدارية، على نحو ما تقترفه من قتل منهجي للمعتقلين ومن إخفاء لجثامين القبور ومن تطهير ديموغرافي واسع النطاق.

هذا الإعلامي وذاك الطبيب هما نموذج للمساهمة اللبنانية في رفد نظام بشار الأسد بالعدة الأيديولوجية اللازمة له ولزمرة القتلة

في هذه الحرب الشاملة، تلاقي العنصرية اللبنانية "شقيقتها" الأسدية، فيقول الإعلامي اللبناني سالم زهران، المقرب من "حزب الله" وصديق كبار ضباط المخابرات السورية، رداً على سؤال المذيعة عن مصير سكان إدلب "لتفهمي المشهد بإدلب لازم تفهمي تدوير النفايات كيف بيصير.." متحدثاً عن الفرز والطحن والحرق وإعادة التدوير. هكذا يتحدث عن مصير ملايين الأطفال والنساء والرجال والشباب والشابات. وحسب علمنا، فإن كبار النازيين في عملهم بالإبادة لم يتحدثوا هكذا عن ضحاياهم إلا سراً، في وثائق سرية، وفي معتقلات ظلت سرية حتى صيف 1944.

هذا الإعلامي وذاك الطبيب هما نموذج للمساهمة اللبنانية في رفد نظام بشار الأسد بالعدة الأيديولوجية اللازمة له ولزمرة القتلة من طراز رجال الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية والأمن العسكري وميليشيات الشبيحة وعصابات السعير الطائفي. المساهمة اللبنانية التي عوضت انقراض "حزب البعث" ولغته، منحته أولاً ما سمي "حلف الأقليات" (الرهاب من الأكثرية السنية، مقدمة طائفية لعنصرية شاملة)، ثم منحته "احتقار العرب" (رواج عبارة الأعراب البدو شاربو بول الإبل)، وأخيراً منحته نظرية العودة إلى المشرق المسيحي بقيادة روسيا الأرثوذكسية، عدا طبعاً مساهمات اليسار اللبناني في "المقاومة" و"الممانعة" و"محاربة التكفيريين"..إلخ.

هؤلاء جميعهم هم "جهاز" واحد، يقوم بمهمة واحدة: تطهير سوريا من سوريتها. من سيبقى فيها ومن يرتضي عيشاً على أرضها عليه التخلي عن معنى سوريا التي حلم بها. وفي هذه الأثناء، لبنان نفسه سيكون على الشاكلة ذاتها وقد ذهب من الانحطاط إلى الانحلال. فأولى ضحايا العنصرية، دوماً، هو حاملها.