سامر رضوان ودقيقة الصمت الأخيرة

2019.05.18 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يتربّع مسلسل "دقيقة صمت" لكاتبه سامر رضوان ومخرجه شوقي الماجري مؤخراً على هرم المسلسلات الأكثر مشاهدة بين زحام الأعمال الرمضانية في يومها الثاني عشر.

ورغم أن اثنتي عشرة حلقة من المسلسل قد لا تكفي حقاً لتقييمه فنياً أو استيعاب كل ما خبأه كاتبه فيه، إلا أنه يمكن القول بأن توليفة العمل الذكية كفيلة بإعطاء المشاهد جرعة دسمة من التشويق والمتعة وكلاهما تتوسدان حاملاً باسقاً قوامه "الفرجة" واللغة البصرية المتقدة.

استطاع كاتب العمل بذكاء الهروب من تعقيدات الوضع السوري، فجعل زمن أحداث مسلسله تجري في شباط من العام 2010، أي تحديداً قبل ولادة بذور الثورة السورية بعام واحد، غير أنه لم يستطع إلا أن ينسج تناصّاً تاريخياً لقصته، ليجعل مشاهديه من السوريين وكأنهم يشاهدون "جنيناً" لثورتهم التي ستولد لاحقاً.

استطاع كاتب العمل بذكاء الهروب من تعقيدات الوضع السوري، فجعل زمن أحداث مسلسله تجري في شباط من العام 2010، أي تحديداً قبل ولادة بذور الثورة السورية

يتحدث العمل عن شخصيتين رئيسيتين هما أمير (عابد فهد) وأدهم اللبناني (فادي أبي سمرا) وهما سجينان محكومان بالإعدام، ويحدث أن يقع عليهما الاختيار من قبل عُصبة من مافيات الضباط الكبار لتهريبهما من السجن بهدف إعدام اثنين آخرين بنفس الأسماء كانا شاهدين على عمليات فساد كبرى تتورط فيها أسماء كبيرة في الدولة السورية آنذاك بدلاً منهما، فيأتي أمر مستعجل لمدير السجن العميد محسن (جهاد سعد) في الساعة الرابعة صباحاً لتنفيذ حكم الإعدام بشكل مستعجل، وفي نفس الوقت يأتي الأمر بتعيين العميد عصام (خالد القيش) مديراً للسجن بدلا من العميد محسن، وذلك ضمن مخطط مرسوم.

ويقضي المخطط الذي ينخرط فيه العميد عصام شاهين وعدد من كبار المسؤولين متواطئاً مع العقيد قاسم (إياد أبو الشامات) نائب مدير السجن وبدون علم مدير السجن بتهريب أمير وأدهم بسيارة العميد عصام، ووضع مدير السجن العميد محسن تحت الأمر الواقع وإقناعه بإعدام سجينين آخرين بدلاً منهما، وطبعا السجينان هما الهدف الأساسي من كل تلك العملية، في الوقت الذي يعطي العميد عصام الأمر لقتل أمير وأدهم خارج السجن عند الإشارة منه وهي اللحظة التي يتأكد فيها أن العميد محسن وقع في الفخ وأن المطلوبَين قد أعدما حقاً، فيعطي أمراً للضابط الذي يحرس أدهم وأمير لقتلهما ولكن يحدث أن يستطيعا الفرار بعد عراك معه وقتله وتبدأ الأحداث المشوقة.

تدور أحداث المسلسل في عشرة أيام فقط من أعوام التاريخ السوري (العام 2010) وهو عام تم اختياره بعناية، إذ يضج بالرمزية بالنسبة للكاتب، فهو عام الحمل قبل الولادة، وهو دقيقة الصمت الأخيرة التي ستنطلق بعدها صفارة الثورة وتعلن "الولادة" وإن كان وصفها الكاتب نفسه في عمل آخر على أنها "من الخاصرة".

شخصيات المسلسل تمتلئ بالرمزية، حيث إن الجهاز المكلف بضبط الأمن في البلاد هو المعني والمشرف والمتحكم بكل عمليات الفساد التي تدور، ضمن منظومة من كبار الشخصيات تجلّت ممارساتها مراراً على لسان العقيد قاسم "أنا برغي ضمن ماكينة كبيرة" في رمزية صريحة تجاه النظام الحاكم، تطلّ شخصية "أمير" الذي يعمل في الممنوع إنما ضمن منظومة قانونية وأخلاقية ابتدعها هو وجماعته، ليقوم برد الحقوق لأصحابها في لقطات "روبن هودية" صرفة، مطلقاً عبارته المدويّة "نحنا ما مندخل الشرطة بيناتنا".

وتبزغ تلك الرمزية مراراً خلال أحداث الحلقات الاثنتي عشرة، حيث يعلن "عطوف" مزور جوازات السفر الذي سيقوم بتأمين جوازات لأمير وأدهم من أجل الهروب خارج البلاد أنه أيضاً يعمل ضمن منظومة، قائلاً " أنا بنحبس أربع خمس تيام وبطلع لأنو في ناس وراي كبار بيوقعوا إذا أنا وقعت"، مشيراً إلى أن جميع جوازاته غير مزورة وأنها تصدر من إدارة الهجرة بالتعاون مع منظومته.

دقيقة الصمت التي أرادها سامر رضوان، بدأت بصخب كبير منذ الدقيقة الأولى للمسلسل ولم يهدأ هذا الصخب حتى الآن، فحيث اللقطات المعتمة والغائمة والشخصيات المأزومة، نجد مجتمع القرية الذي رفض دفن جثة ابنه "أمير" في حالة للتعبير عن رفض الحاضنة الشعبية لشخصية دفعتها قيم الشهامة والرجولة إلى القتل، رغم أنها تحقق العدالة ضمن منظومة أخلاقية خاصة، وفي مقابل لها على المقلب الآخر ينصب رئيس الناحية في القرية (وهو والد القتيلين الذين قتلهما أمير بعد استجارة امرأة به) الدبكة والطبل والزمر أمام خيمة عزاء أمير ليقول إنه انتصر.. انتصر فرقص ودبك!

إنها خمسون عاماً من الصمت أرادها سامر رضوان دقيقة واحدة، دقيقة الصمت التي تسبق العاصفة.. الولادة.. وإن كانت من خاصرة الألم مرة أخرى

ويشكل أمير بشكل أو بآخر مثالاً صارخاً عن الشعور بوجوب تحقيق العدالة، لكنه في نظر القانون مجرم، وفي المقابل تشكل المافيا التي يواجهها أوضح الصور الجرمية، في الوقت الذي تعبر فيه أمام المجتمع أنها ممثلة للقانون والأمن والأمان.

فرادة النص تنبع من كونها لا ترمي الأوراق دفعة واحدة لتسير بك إلى آخر العمل، إنما تترك الكثير من العقد ليعود ويحلها بالتدريج تارة عبر حدث عابر، وتارة عبر مشاهد "فلاش باك" كما حدث في الحلقة 11 التي تبين فيها سبب قتل أمير لابني مدير الناحية.

حبكة المسلسل القوية قد تحيل البعض إلى أعمال أجنبية أخرى سبق واتبعت نفس الأسلوب ما يوقع النص في دائرة الاتهام، إلا أن الحقيقة أنه من الجهل وصف حبكة ما بأنها مسروقة، فحسب المبدأ الأرسطي لتعريف الحبكة بأنها مجموعة من الأفعال والأحداث التي تشكل عقداً يؤدى إلى الذروة، وطالما أن إزالة أي جزء من هذا العقد سيؤدي إلى انفراطه كلياً، فذلك يجعل من كل قسم من هذا العقد أصيلاً للكاتب، هذا عدا عن كون نص دقيقة صمت لم يتبع الشكل الكلاسيكي لسير الحبكة والوصول إلى الذروة، بل استخدم مبدأ "الذرى المتعددة" والتي تلمسها في كل حلقة حتى من الحلقة الأولى.

إنها خمسون عاماً من الصمت أرادها سامر رضوان دقيقة واحدة، دقيقة الصمت التي تسبق العاصفة.. الولادة.. وإن كانت من خاصرة الألم مرة أخرى.